دور وسائل الإعلام في عملية التنشئة السياسية لدى الفرد الجزائري.
![]() |
التنشئة السياسية في بعدها الإعلامي |
تحتل وسائل الإعلام اليوم مكانة كبيرة إلى درجة أنه، لا يمكن تصور حياة بدونها، فقد دخلت كل بيت و أصبحت جزء أساسياً، و أهم وسيلة في الترفيه، و ملجأ عند الحاجة، بعد تناقص دور مصادر التلقي الأخرى أمام طوفان الرسائل الإعلامية، التي استخدمت أحدث ما توصل إليه العقل البشري من تكنولوجيا الاتصال، و لم يكن هذا النجاح الذي يعبر عنه البعض بـ " الثورة "، حيادياً عن ما تمارسه هذه الوسائل من تأثير عند تعرضنا لها، لأن جزء كبيراً من سلوكنا أنتجته هذه الأخيرة. و هناك دراسات كثيرة أثبتت أن العنف و اللاتسامح و الانفعال و تصرفات كثيرة أخرى، هي نتيجة لذلك، و قد قال دنيال كوني بهذا الشأن " لم تعد الوظيفة الوحيدة لوسائل الإعلام تقديم المعلومات، لكنها تقوم أيضاً بالترفيه و جذب الجمهور إلى مواضيع و توجيه أحكامه و تحضير استعداداته و تكوين المعتقدات، و الكشف عن الممارسات و نقد القرارات " (1)، هذه الوظيفة التأثيرية التي لازالت تتنامى مع نمو و زيادة الدور الذي أصبحت تؤديه وسائل الإعلام في حياتنا. و الذي يعبر عنه المختصون بالتنشئة. أي تلك العملية التي بمقتضاها يكتسب الفرد مجموعة من السلوك و المعتقدات و الأفكار التي يُفترض أنها تدمجه في المجتمع إدماجاً يتفادى فيه الاغتراب. و تقوم هذه العملية من خلال مختلف المراكز الاجتماعية، و هي الروح التي تغذي الفرد في تفاعلاته الاجتماعية بصفة عامة، طالما أنه يحدد أدواره و ثقافته بما توفر لديه من تغذية القيم و المعتقدات و المفاهيم التي يواجهها في كل حين. و تأخذ التنشئة المذكورة عدة صور و أشكال تعكس في مجملها ميادين الحياة الاجتماعية، و إذا وضعنا كل أصناف التنشئة الاجتماعية و الثقافية الأخرى جانباً، فإن تركيزنا هنا يكون في حدود التنشئة السياسية و دور وسائل الإعلام في أدائها لهذا الجانب. و نقصد بالتنشئة السياسية، عملية تلقين الفرد المواطن، أسساً و مبادئ تجعل مشاركته السياسية ذات ديناميكية و توفر له إمكانية إدراك أهمية القضايا السياسية المطروحة على مجتمعه، و يتم هذا التلقين عبر مراكز تسمى مراكز التنشئة السياسية.
اعتُبرت وسائل الإعلام في الجزائر، و لمدة طويلة ظاهرة معزولة مرتبطة أساساً بالنظام السياسي، و منفصلة بدرجة أو بأخرى عن سائر جوانب المجتمع، و نادراً ما كان يولى قدر كاف من التفكير لمكانتها في التفاعلات التي تثيرها مع البنى الاجتماعية الأخرى. و النتيجة الطبيعية لذلك، أن الصحافة المكتوبة كان يُنظر إليها على أنها قوة مرتبطة بالسلطات المهيمنة على كل شيء.
وسائل الإعلام و عملية التنشئة.
تساهم وسائل الإعلام في تنشئة الفرد، بقدر يختلف باختلاف المعايير التي تتحكم في طبيعة هذه الوسائل و عملها، و الأمر أبعد من ذلك حين نعلم أن هذه الوظيفة التنشئة –تقوم بها عدة جهات وبواسطة عدة وسائل، كالأسرة و المدرسة و المسجد و الحي و الشارع و أصحاب المهن ..الخ و عليه فهذه الوظيفة ليست حكراً على وسائل الإعلام، و هذا شيء طبيعي، إذا نظرنا إلى قدم هذه المؤسسات و حداثة وسائل الإعلام.
مع دخول وسائل الإعلام إلى كل البيوت، و اقتحامها لكل المجالات، أصبحت الفضاء الأساسي لحياة الأمم و الشعوب على حد سواء. إلى درجة أنه لا يمكن تصور شعب أو أمة دون وسائل الإعلام. حيث لا يستطيع الحاكم إدارة الحكم بدونها، كما أصبحت ضرورية للمعلّم و التلميذ و العامل و رجل الشارع، .. فبدونها لا يمكن لهؤلاء الإطلاع على ما يحدث في مجتمعاتهم و لا حتى داخل الشعوب و الأمم الأخرى. و قد استفادت هذه الوسائل في تأدية مهامها المذكورة من، كل ما حققه العلم من اختراعات و ابتكارات أقل ما يقال عنها أنها زادت من تبعية الإنسان إزاءها. و حتى المؤسسات التربوية و الثقافية، لم تصبح لوحدها قادرة على تعليم طرق و أساليب استعمال الوسائط التكنولوجية الحديثة، كما كانت تقوم على مستوى وظيفة تنشئة المعارف، و عليه وصف هذا النشاط التعليمي الإعلامي بـ"بالمدرسة الموازية " أو " المنافسة " بعدما أدرج في إطار المعارف الإعلامية (2).
تنبع تنشئة الفرد بواسطة وسائل الإعلام، أولاً من وظائف هذه الأخيرة ثم من، ثم طريقة استعمالها ثانياً، ففي هذا المجال يرى الكثير أن وسائل الإعلام موجودة للترفيه أو لتقديم معلومات لا يمكننا الحصول عليها لأن وجودها يتعدى نطاقنا الجغرافي و الزمني. لكن هذه الرؤية محدودة، إذ كل ما نراه أو نقرأه أو نسمعه لا يخلو من غرض " .. أو بالتعبير المتعارف عليه بين المهتمين بالاتصال الجماهيري Loaded value(شحنة القيم)، يشير استخدام هذا التعبير إلى أن الرسائل الإعلامية سواء كانت في شكل خبر أو فكاهة، أو برنامج علمي، هدفها إزالة قيم و تثبيت أخرى محلها، أو ترسيخ شيء قائم، و التصدي إلى آخر قادم، و هذا بالضبط هو مفهوم التنشئة الاجتماعية في أبسط صورة له(3).
نجد مقابل الدراسات الكثيرة التي تناولت التنشئة الاجتماعية و السياسية للفرد و أهم مراكزها و طرق عملها، نجد أن الدراسات الخاصة بدور وسائل الإعلام في تنشئة الفرد قليلة جداً، بالرغم من أن هذا المجال خصب للدراسة و التحليل، و يقوم على تداخل مجالات معرفية كثيرة يصعب على الباحث إدراكها بشكل جيد. ذلك أن الإنسان في حد ذاته، تجتمع فيه عدة علوم لتحديد سلوكه، منها علم النفس و علم النفس الاجتماعي و علم السياسة و الإثنولوجيا و التاريخ .. علاوة على دراسة وظائف وسائل الإعلام في المجتمع محل الدراسة.
يرى بعض المختصين،أن الفرد يطل على العالم الخارجي من خلال وسائل الإعلام، إذ لا يمكن في الوقت الحاضر تصور طريقة أخرى يمكن اللجوء إليها لنفس الغرض، و من ذلك نطرح التساؤل التالي : فإلى أي مدى استطاعت الصحافة المكتوبة في الجزائر تأدية هذه المهام في علاقتها بالجمهور ؟.
لازالت الصحافة المكتوبة في الجزائر في أزمة مع جمهورها. هذه الأزمة اختلفت طبيعتها و حدتها مع اختلاف طبيعة و حدة المراحل السياسية التي مرت بها خلال تاريخها المعاصر. فأثناء عهد الأحادية الحزبية التي تميزت بأحادية خطاب الرسالة الإعلامية من السلطة السياسية إلى الجمهور، أي عدم تفاعل طرفي العملية الاتصالية في بناء الرسالة. و في هذا الصدد عبرت عدة أطراف عن هذه القطيعة و خطورتها على تنشئة الفرد الجزائري، و ذلك في عدة مناسبات، لاسيما منها المناقشات التي دارت حول مشاريع المواثيق الوطنية و ما جاء فيها بشأن عدم تناسب مضامين وسائل الإعلام مع مشاريع التنمية المراد تحقيقها آنذاك. كما أن النظرة السريعة على مضمون الصحافة المكتوبة في تلك الفترة، نؤكد وجود عدد لا يستهان به من رسائل القراء تشير مضامينها إلى فشل الصحافة المكتوبة في مهامها " التنموية " موضحة أن الأزمة التي عاشتها الصحافة الجزائرية هي تناج الفجوة الموجودة بينها و بين الجمهور الجزائري في عدم تعبيرها عن واقعه بكل ما يمتاز به من خصائص و قضايا. كما أن المسئولينفي الدولة، أكّدوا وجود هذه الأزمة في العديد من التصريحات، حيث أكد الرئيس الراحل هواري بومدين في خطاباته، أن الصحافة المكتوبة لم تكن في المستوى المنوط بها تجاه الطموحات التنموية، و أكد الرئيس الشاذلي بن جديد بدوره في مداخلات كثيرة أن الصحافة المكتوبة لم تقم بدورها في توعية المواطن (4).
تغيرت الظروف بعد أحداث أكتوبر 1988. حيث مس التغيير كل قطاعات المجتمع الجزائري و برز ذلك على الصعيد السياسي بظهور " التعددية السياسية " و على الصعيد الإعلامي بإقرار "التعددية الإعلامية " مما نتج عنه تعدد في وسائل التعبير الإعلامي، حيث أصبح للمواطن الجزائري عدة منابر للتعبير عن آرائه و طموحاته حتى و لو أنها لا تشتغل إلا في مناسبات نادرة مثل " الحملات الانتخابية ". الشيء الذي أبقى الأزمة بين وسائل الإعلام و جمهورها بارزة في الأفق بالرغم من تغيير مظاهرها و أبعادها حيث تجلت هذه المظاهر فيما يلي:
- لم تستطع وسائل الإعلام بالرغم من تنوعها من حيث الكم و الكيف، سد الفراغ فيما يخص تزويد الجمهور بالمعلومات الصادقة و الفعّالة في عملية التنشئة، و تركت المجال لصالح مراكز التنشئة الأخرى خاصة منها الشارع و المسجد .. التي أثبتت أنها أقوى إعلامياً من المؤسسات الأخرى، في تعويض وسائل الإعلام تأثيراً.
- لم تستطع الصحافة المكتوبة في الجزائر، على سبيل المثال، مخاطبة كل شرائح المجتمع، و هذا لكونها تتطلب مستوى تعليمياً معيناً لفهم مضمون رسائلها لأن العديد من أوساط المجتمع الجزائري تعاني الأمية كما أن هذه الصحافة تعاني مشاكل في التوزيع، مما جعل مناطق عديدة من الجزائر، محرومة منها.
- لم تستطع وسائل الإعلام في الجزائر المساهمة بفعّالية في تنشئة الفرد أيضاً، و ذلك لطبيعة علاقتها بالنظام السياسي القائم، فضمان حرية الوصول إلى مصدر الخبر على سبيل المثال، تكاد تكون شعاراً أجوفا، تغذيه ديماغوجية الخطاب السياسي في بعض المناسبات الخاصة بالاحتفال بحرية التعبير و حرية الصحافة .. الخ. و يبقى الصحفي في الواقع خاضعاً، لما تمليه السلطة في هذا المجال، و أمام هذا الوضع، يبقى الصحفي في أداء المهني للأخبار، لا يعتمد على المصادر الحقيقية التي توفر للجمهور معطيات ذات مصداقية كبيرة، الأمر الذي جعل ما يقدم من مادة إعلامية للجمهور عبارة عن تعاليق لا صلة لها بالواقع. أي أن هذه الخطوط الحمراء التي رسمتها السلطة السياسية بشأن الوصول إلى مصدر الخبر من خلال التشريعات المتعلقة بقطاع الإعلام، و كذا ممارستها لمراقبة الصحافة المكتوبة، لم تود إلى تنشئة الفرد وفق ما ينبغي أن يكون عليه، و في مثل هذا الوضع، يبقى الفرد الجزائري عرضة لأنواع أخرى من مصادر التنشئة يلجأ إليها في غياب المصادر الصحيحة.
- نتيجة لما سبق، أصبح الفرد الجزائري مجبر اللجوء إلى مصادر أخرى للمعلومات و لسد حاجاته منها القنوات الأجنبية، مما جعلها تنافس وسائل الإعلام الجزائرية في وظيفة التنشئة.
أما الأبعاد فيمكن تلخيصها فيما يلي:
- لم تستطع وسائل الإعلام في الجزائر المساهمة بفعّالية في تنشئة الفرد، و هذا راجع إلى قوة المؤسسات التقليدية في هذه الوظيفة، و ضعف الأولى في منافستها، مما جعلها في سلم مصادر المعلومات بالنسبة للفرد الجزائري تأتي بعد :
1 –المحادثات اليومية: تُعد المحادثات اليومية، أو كما سماها الأستاذ عزي عبد الرحمن " القيل و القال " (5)، من أكثر الوسائل الاتصالية استعمالاً في أوساط المجتمع الجزائري بل في أوساط الكثير من الدول النامية (6). و هذا بالرغم من وجود وسائل حديثة و متطورة جداً. فقد أثبتت دراسة أجريت على عينة من سكان ولاية بومرداس في الجزائر مثلاً، أن الاتصال المباشر يقع في المرتبة الثانية كمصدر من مصادر استقاء الفرد معلوماته اليومية بعد التلفزيون، و أنه –أي الاتصال المباشر- يحتل المرتبة الأولى كأسلوب ناجح لتبليغ المعلومات المهمة حسب العينة المدروسة.
تأخذ المحادثات اليومية في أوساط الجمهور الجزائري، عدة أشكال و أنماط، منها:
الأمثال الشعبية: يكاد لا يخلو مجلس من مجالس الحديث في أوساط الشعب الجزائري، من الإشارة إلى بعض الأمثال. فالأمثال الشعبية بالنسبة له جزء من الذاكرة الجماعية، لما تحتله من مكانة جد محترمة لها و لقائلها، و هي متعددة جداً تكاد تشمل معظم المجالات : الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و غيرها من مجالات الحياة. و قد ورث الشعب الجزائري هذا النوع من الاتصال عبر تاريخه الثقافي و الديني. فقد جاء في الآية الكريمة: " و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " أو الآية الكريمة " و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون " ، فهذا الميراث لا يزال بقدر كبير أهم مرتكز لأصناف الحديث في أوساط المجتمع الجزائري، يقول أحمد بن نعمان عن دور الأمثال في المحادثات اليومية : " .. فيستنجد (المثل) به المرء في كل حديث جاد مفيد لدعم رأيه و إقناع خصومه باعتباره العرف الذي اتفق غالبية أفراد المجتمع، عليه حتى أصبح بمثابة الضابط الاجتماعي الذي يوجه سلوك الفرد مع نفسه و مع أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه " (7).
الألغاز و الحكايات الدالة: يُعد هذا النوع من الحديث، من بين الأشكال البارزة لاتصال الأفراد فيما بينهم، و هي مهمة في معرفة مواقف الأفراد و الجماعات إزاء القضايا المطروحة للنقاش. فالهزل و الجدية قد يعطيان صورة عن مدى و كيفية تقبل الأفراد لخبر أو معلومة. فقد لاحظنا الكثير من القضايا استقبلت بنوع من السخرية كدليل على عدم الإيمان بها و الشك في مصداقيتها. و الأمثلة على ذلك كثيرة فعلى سبيل المثال النكت و الحكايات التي تقال حول العمليات الإرهابية أو عن الإرهابيين أنفسهم، فرغم جدية و خطورة هذه الظاهرة إلا أن المجتمع الجزائري أصبح يتقبلها بشيء من الهزل و الحكايات العجيبة التي تثير الدهشة و الحيرة، و في شكل درامي حتى يعطي صاحبها أهمية لما ينقله من أخبار.
الأناشيد: و نخص بالذكر هنا، تلك الأناشيد التي يرددها الشباب في الملاعب و التجمعات الشبانية الأخرى، حيث تحمل هذه الأناشيد الكثير مما يمكن أن يشكل مواقف و اتجاهات الجمهور حول القضايا المعروضة للنقاش. فهي اقتحمت كل الميادين بكلمات هزلية في معظم الأحيان و بمقارنات تعطى الإحساس العميق بموقف قائلها.
2 –المصادر الفردية: يعتمد الفرد الجزائري أكثر على مصادر فردية تأتيه غالبا من الأقارب و الأصدقاء الذين يحتلون غالباً مكانة تجعلهم أقرب إلى مجال هذه المعلومة، فمركزهم هذا كاف لأن يعطي مصداقية للمعلومة التي يقدمونها، و قد أصبح هذا النوع من المصادر –في غياب المصادر الرسمية أو لقلتها –من المصادر الهامة في أوساط الشعب الجزائري و أكثرها استعمالاً في أحاديثه اليومية.
3 –المعلومات التي تقدمها القنوات التلفزيونية الأجنبية: بالرغم من كل الأشكال السابقة الذكر في توصيل المعلومة، يبقى التلفزيون من بين أهم مصادر المعلومات للفرد الجزائري. وقد سمحت له ميزة الجمع بين الصوت و الصورة باحتلال هذه المرتبة. و اعتبرته العديد من الدراسات التي تناولت هذه الوسيلة في الجزائر، أنه المصدر الرئيسي لمعلومات الفرد، بعد الاتصال الشخصي و المحادثات اليومية. فقد جاء في دراسة حول ترتيب مصادر المعلومات لدى عينة من جمهور عاصمة الجزائر، أن أكثر من 28 %من العينة المدروسة تعتمد على التلفزيون كمصدر رئيس للمعلومات (8)، و يبدو هذا أمراً عادياً إذ ما علمنا أن المقصود بالتلفزيون هنا هي القنوات الأجنبية؛ فمع التقدم الهائل الذي شهدته هذه الوسيلة خاصة في تطور تقنيات البث عبر الأقمار الصناعية، يكاد لا يخلو منزل في الجزائر من إحدى الأحزمة المعروضة و خاصة منها الفرنسية. إن هذا العرض المكثف للمعلومة و طريقة تقديمها ( التعاليق و الصور ) جعل الفرد الجزائري ينبهر بما يتحصل عليه من معلومات، و جعل من هذه القنوات التلفزيونية الأجنبية و سرعة تقديمها مصادر مقدسة لا يمكن الشك فيما تقدمه من معلومات.
لا الصحافة الجزائرية المكتوبة و لا التلفزيون الجزائري استطاعا منافسة هذه القنوات الأجنبية على الأقل في مجال تقديم المعلومات، بل ابعد من ذلك أن الفرد الجزائري أصبح يلجأ إلى هذه القنوات حتى فيما يتعلق بأحداث خاصة بالجزائر، وما يمكن أن تحمله من مغالطات و تشويه للحقائق.
4 –الإشاعات: لا يخلو أي مجتمع أياً كان من التعرض للإشاعات، و قد تختلف حدتها من مجتمع إلى آخر حسب الظروف الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية .. السائدة في كل مجتمع، و على رأس هذه الظروف طبيعة عمل وسائل الإعلام الجماهيري و الوظيفة المخولة لها. إذ على كل ذلك يتوقف حجم سريان الإشاعة و درجة فعاليتها و هذا في حالات تأخر وسائل الإعلام عن عليها تتوقف كمية الإشاعات و حدتها، فقد يأخذ عليها تأخرها في التغطية أحياناً، أو تقديم معلومات قليلة غير كافية، لأن هذا التقصير في العمل الإعلامي خطأ فادح، لا يدفع إلى الاستعانة بالقنوات الأجنبية فحسب بل أيضاً يوفر الجو الملائم لظهور الشائعة و نموها و انتشارها
لقد رأينا فيما سبق، أن المجتمع الجزائري يكثر من استعمال الاتصال الشخصي المباشر في تعاملاته اليومية. و عندما نعلم أن وسائل الإعلام لا توفر بالقدر الكافي المعلومات التي يحتاجها الفرد نتيجة لعوامل كثيرة، فإن هذين العاملين يساعدان في الكثير من الأحيان على ظهور الإشاعة و انتشارها، خاصة في أوقات الأزمات، ( أحداث العمليات الإرهابية، أزمة ما يجري في منطقة القبائل ..) التي تتميز بارتفاع الطلب على المعلومات و التفسيرات و الآراء حول ما يجرى وما يترتب على ذلك في المستقبل، و قد أكد عبد الرحمن بن حمود العناد في هذا المضمار: " .. فتكشف الاضطرابات الخطيرة أو حركات الشغب التي تقع في بعض الأحيان في المجتمعات وجود صلة بينها و بين الشائعات التي تسبقها و على الرغم من عدم الجزم بأنها تعتبر العلة الوحيدة أو السبب الأصلي وراء الشغب، إلا أنها تلعب دوراً مساعد هاماً على الدوام .. " (9)و تظهر الإشاعة في شكل صور مختلفة من التهويل مستغلة في ذلك بعض الظروف التي تحدث أحيانًا في الحياة العامة خاصة منها السياسية و الأمنية مثل ما كان الحال في الجزائر خلال العشرية الأخيرة.
السؤال الذي نطرحه في هذا الاتجاه، هو كيف تعمل وسائل الإعلام كأداة للتغيير في المجتمع الجزائري، و إلى أي حد؟ . إن التأثير و التوجيه، مرتبطان بطبيعة العلاقات الاجتماعية و بدرجة استعمال الفرد لوسائل الإعلام الجماهيرية، مقابل استخدامه لوسائل الاتصال الأخرى داخل الجماعات التي ينتمي إليها، و هذا بالذات ما جعل وسائل الإعلام في الجزائر، تتواجه صعوبة كبيرة في اختراق نسيج الاتصال الاجتماعي لتفرض نفسها كأهم مصدر من مصادر المعلومات للفرد الجزائري. و هذا لقوة هذه الوسائل الاتصالية ، و وجودها مرتبط بالعلاقات الاجتماعية لهذا الفرد مثل الاتصال الشفهي، و الجماعة كمصدر للمعلومات، و كذا قائد الرأي .. .
الصحافة المكتوبة و عملية التنشئة السياسية.
يسعى كل مجتمع مهما كانت إيديولوجيته أو طبيعة نظامه السياسي إلى إدماج مواطنيه في الحياة العامة، خاصة منها السياسية، أخذاً بعين الاعتبار التماسك العضوي لكيانه العام. هذه العملية تعرف في علم السياسة و الإعلام بالتنشئة السياسية، و هي في الحقيقة جزء هام جداً من التنشئة بصفة عامة، و سوف نحاول لاحقاً تعريف هذه العملية * و أهم المراكز التي تقوم بها، و ما دور وسائل الإعلام فيها ؟ يقول ناجي صادق شــراب في هذا الإطار: " هي باختصار عملية تلقين الفرد قيم و مقاييس و مفاهيم مجتمعه الذي يعيش فيه بحيث يصبح متدرباُ على شغل مجموعة أدوار تحدد نمط سلوكه اليومي "(1) أما أحمد بدر فهو يرى أن التنشئة السياسية : " تدلنا على الطرق التي ينقل بها المجتمع ثقافته السياسية من جيل إلى جيل كما أن هذه العملية يمكن أن تخدم في الحفاظ على المؤسسات و المعايير السياسية لمجتمع معين " (10).
نظراً لما سبق، تسعى السلطة السياسية إلى جعل التنشئة السياسية من بين أهم الوظائف التي تقوم بها، إذ عن طريقها يمكن الحفاظ على النظام العام واستقراره وفق التوجهات التي يحددها هذا النظام. و هي نعكس درجة ولاء الفرد و مشاركته في الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية. و عليه تبدأ هذه العملية في سن مبكر من حياة الفرد، و تبقى تلازمه إلى الأبد.
إن مرحلة الطفولة، هي أهم مرحلة يمكن أن تؤدي فيها التنشئة السياسية الدور الأساسي لبناء مواطن مثالي، و لأنها مرحلة لا يكون فيها للطفل أي ارتباط بأنماط سلوكية أو عادات اجتماعية فهو صفحة بيضاء، لذا فإن تهيئته لحمل قيم مجتمعه ضرورية، حتى تصبح هذا القيم جزءاً من شخصيته و سلوكه المستقبلي. و قد حدد أحمد بدر هذه الفترة التي تتطلب عاملاً أكثر شدة للتنشئة السياسية ما بين سن الثالثة و سن الثالثة عشر (11).
بعد سن الطفولة يكون الطفل في مرحلة اكتساب معلومات دقيقة و كاملة بسبب قدرته على التفكير النقدي إزاء الأمور السياسية. و قد فسر العلماء هذا التطور الإدراكي باستراتيجية الانتقال من التوجه العاطفي إلى التوجه المعرفي ثم إلى التوجه التقييمي. ففي المرحلة الأولى تلعب التنشئة السياسية على الأوتار العاطفية التي تجعل الطفل ميالاً إلى حب وطنه و السلطة و الدولة .. ، و تكون هذه المرحلة خالية من التصور المنطقي للأشياء. أما المرحلة الثانية، فيبدأ الطفل فيها اكتساب معلومات لم يكن ليدركها في المرحلة الأولى، و هي معلومات حول مكونات الحياة السياسية مثل الخضوع و الطاعة و الولاء، لمن هم يشكلون الدولة في وطنه.
أما مرحلة التقييم، فيكسب فيها الفرد استعداداً لنقد الإطار السياسي و الاجتماعي الذي يعيش فيه، و على هذا الأساس تتضح لنا أهمية التنشئة السياسية في مرحلة الطفولة، ذلك أن هذه المرحلة تشكل الاتجاهات و التصورات السياسية في سن الرشد.
كما هو الحال بالنسبة للتنشئة بصفة عامة، تتم التنشئة السياسية بكيفيتين:
- إما أن تكون رسمية يتلقاها الفرد من خلال بعض المراكز، أهمها المدرسة و هذا عن طريق البرامج التربوية الرسمية التي تًقدم للأطفال و هي ما يسميها بعض الدارسين بالتوجه الواعي المقصود نحو التعليمات و القيم السياسية. حيث تُدرس هذه البرامج وفق ما تمليه الإيديولوجية المتبعة و توجهات السياسة العامة للسلطة.
- أو تكون غير مقصودة و غير إرادية، أي أن الطفل في احتكاكه بالمحيط التعليمي و التكويني، يتلقى بعض التوجيهات في شكل تعاليم تتناول القيم التي يجب أن يتخلق بها، مثل المفاهيم الخاصة بالشرطة و العسكريين و الرموز السياسية كالراية الوطنية، و بعض الزعماء ( خصوصاً رئيس الدولة ).
لكن من يقوم بهذه العملية ؟ تُعد الأسرة و المدرسة و المسجد و أقران الحي و أصدقاء العمل و النوادي الرياضية و الجماعات المهنية و المنظمات الجماهيرية .. من مراكز التنشئة السياسية، و قد رأينا فيما سبق دور هذه المراكز في تنشئة الفرد اجتماعياً و سياسياً أيضاً، أي نفس المراكز تقوم بالتنشئة السياسية بشكل متداخل و متكامل يصعب التحديد بصورة دقيقة دور كل مركز، أي لا يمكن القول إن دور الأسرة مثلاُ يقف عند حد معين أو مرحلة معينة خاصة في المجتمعات مثل المجتمع الجزائري، حيث يتقدم الولاء إلى الأسرة كل أنواع الولاءات الأخرى طالما أن التماسك الأسري قوي إلى حد أن الفرد و لظروف اجتماعية و اقتصادية، يبقى مرتبط بأسرته إلى سن متقدم جداُ. و دور الأسرة هذا يتزايد و يتناقص حسب متغيرات عدة بعضها نفسية خاصة بالفرد، و الأخرى اجتماعية ترعاها الظروف المحيطة به، و يمكن إبداء نفس الملاحظة فيما يخص المراكز الأخرى للتنشئة السياسية. و لدراسة هذه العملية قسم العلماء هذه المراكز إلى مراكز الجماعات الأولية و مراكز الجماعات الثانوية و جماعة الإحالة*.
لم يحظ موضوع وسائل الإعلام و التنشئة السياسية، بأهمية كبيرة لدى دارسي علم السياسة و علم الإعلام و الاتصال على حد سواء، و ذلك لا يعود إلى طبيعة وسائل الإعلام و دورها في التفاعلات السياسية، بل لعدم وضوح هذه الطبيعة و هذا الدور بما فيه الكفاية حتى يشكل القاعدة المعرفية لوضع نظريات تفسرها وسائل الإعلام، و بالرغم من ذلك فإن ما تم إنجازه في هذا الصدد كاف لإعطائنا نظرة عن الأهمية التي أصبحت تحتلها وسائل الإعلام ضمن مراكز التنشئة السياسية " الكلاسيكية " مثل الأسرة و المدرسة و الحي .. .
إن القول بأن الصحافة المكتوبة عي مصدر المعلومات التي يتحصل عليها الفرد لا يعكس كل الحقيقة، و هو يشكل جزءاً يسيراً من الواقع الميداني لأن الصحافة في عصرنا الحاضر تُعد وسيلة قوية للتأثير في الأذهان (12).
ما هي مكانة الصحافة المكتوبة الجزائرية في عملية التنشئة السياسية بمفهومها السابق ؟.
رأينا فيما سبق، كيف أن مضمون الصحافة المكتوبة لا يزال في الجزائر، يتجه أكثر إلى أداء الوظائف الكلاسيكية الخاصة بالصحافة المكتوبة بصفة عامة. أي القيام بأدوار الإخبار و الترفيه و التسلية، و تجاهل ما يمكن أن يشكل أسساً للتنشئة السياسية للفرد الجزائري و إدماجه اجتماعياً و سياسياً و اقتصادياً في الواقع الجزائري الذي تبلورت ملامحه مع التغيرات الجديدة التي شهدتها الجزائر. و هنا نتساءل : ما هي الأسباب و الخلفيات التي جعلت الصحافة الجزائرية ضعيفة التوجه في تنشئة الفرد سياسياً ؟.
اهتمت وسائل الإعلام خلال مرحلة الحزب الواحد، بالعمل التعبوي لصالح إيديولوجية السلطة السياسية الحاكمة و توجهاتها. فقد كانت من بين الوسائل السياسية الهامة التي سُخرت لهذا الشأن. و كان دورها آنذاك يتمثل في القيام بعملية التنشئة السياسية للمواطنين و توعيتهم للالتفاف حول السلطة السياسية و المساهمة في تطبيق برامجها. و حتى الصحافة المكتوبة قامت بالدور نفسه و هذا بالرغم من أنها لم تكن من الوسائل المهمة لدى صناع القرار السياسي، نظراً لطبيعة المجتمع الجزائري و الذي كان يعاني آنذاك التخلف و الجهل و الأمية.
أما بعد الانفتاح السياسي الحاصل بعد أحداث أكتوبر 1988 و صدور دستور 1989 التعددي، فقد أصبحت التنشئة السياسية أساسية لفهم التوجهات السياسية الجديدة، لأن عليها يتوقف نجاح هذه الأخيرة، و تقوم عادة وسائل الإعلام، - خاصة منها الصحافة المكتوبة - بمهام التكفل بالمجتمع فيما يخص التنشئة السياسية إلى جانب المراكز و المؤسسات التي سبق الإشارة إليها. و في هذا المضمار، نقول : إلى أي مدى تمكنت الصحافة الجزائرية المكتوبة من أداء تلك المهام؟. ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال، لا من الناحية النظرية و لا من الناحية التطبيقية، لأن التنشئة السياسية تخضع إلى عدة عوامل و تيارات متعارضة تتفاعل معاً و تؤثر في بعضها البعض لتشكل ذلك الكم من القيم و السلوكات السياسية التي يتلقاها الفرد طوال حياته. و الصحافة المكتوبة كوسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري يصعب في خضم تداخل العوامل السالفة الذكر قياس مساهمتها في تنشئة الفرد.
لقد رأينا في غير هذا الموضع، أن المجتمع الجزائري لا يزال يعتمد على نماذج اتصال أقل ما يقال عنها أنها تقليدية، مثل المحاكات و الاتصال المباشر .. و أن وسائل الإعلام تحتل مكانة متفاوتة الأهمية بين هذه النماذج، و عليه فإذا كانت الصحافة المكتوبة موجّهة إلى من له القدرة على القراءة على الأقل، فإن الفئات الأمية تستقى معلوماتها من مراكز تقليدية مثل الشارع و المسجد و الملاعب و المقاهي، مما يجعل تنشئة الفرد الجزائري سياسياً بواسطة الجرائد و المجلات مهمة صعبة إلى حد بعيد، إذ أنها لا تخاطب إلا القليل من أفراد المجتمع الجزائري. نظراً للعوامل المذكورة إلى جانب ضعف نوزيعها كما أن التلفزيون في الجزائر يحتل مكانة بارزة داخل المجتمع، و هو المصدر الأساسي الذي يعود إليه الفرد الجزائري للحصول على المعلومات السياسية التي يحتاجها، فهو يساهم بقدر أكبر من الصحافة المكتوبة في عملية التنشئة السياسية للفرد الجزائري.
إذ حاولنا تلخيص فكرة الصحافة المكتوبة و التنشئة السياسية في الجزائر نقول:
- لا تعمل الصحافة المكتوبة في الجزائر بالقدر الكافي في تنشئة الفرد سياسياً، نظراً لضعف مكانتها ما بين الوسائل الإعلامية الأخرى خاصة التلفزيون.
- لم تحقق بعد قوة الصحافة المكتوبة في تنشئة الفرد الجزائري سياسياً، أمام المراكز التقليدية الأخرى في المجتمع و التي تؤدي نفس المهمة و على نطاق واسع.
- ارتبط وجد الصحافة المكتوبة في أوساط الشعب الجزائري بفئات اجتماعية معينة (ممن يحسنون القراءة) و بمناطق معينة (التجمعات السكانية الكبرى)و هذا نظراً لظروف سياسية و اقتصادية.
- صعوبة تحديد ما يتلقاه الفرد الجزائري من تنشئة سياسية بواسطة الصحافة المكتوبة، و ما يتلقاه من المراكز الأخرى.
الهوامش
(1) Daniel cornu, Journalisme
et vérité , pour une éthique de L’information, Genève, Labor et Fibre,
1994, P 251.
(2)Jean luc Michel, pour
une socialisation des moyens de communications électronique. Le rôle des petits
groupes volontaires et d’associations dans la distanciation critique et
médiatique, université de Paris 7, avril 1988, P35.
(3) Ibid,
P 01.
(4)تقلاً عن : عزي عبد الرحمن، ( أزمة
الرسالة في النظام الإعلامي الجزائري ) مرجع سبق ذكره، ص 101.
(5)نفس المرجع، ص 104.
(5)أنظر : شون ماك برايد، أصوات متعددة
و عالم واحد،الجزائر : الشركة الوطنية للنشر و الإشهار، 1981، ص 13 و ما
بعدها.
(7)أحمد بن نعمان، نفسية الشعب
الجزائري، الجزائر : دار الأمة للطباعة و الترجمة و النشر و التوزيع،
1994، ص 80.
(8)كهينة مهدي، سعاد نفاح، قائد الرأي
بين وسائل الإعلام و جمهورها، مذكرة لنيل شهادة الليسانس في علو الإعلام
و الاتصال،جامعة الجزائر، معهد علوم الإعلام و الاتصال، 1999، ص 58.
(9)الدمام: فارس بن حزام، (
حول الإشاعة )جريدة الوطن الأردنية، العدد507، فيفري 2002، ص 14.
*لا تكاد تخلو دراسة في علم السياسة أو
نظريات وسائل الإعلام من التطرق لعملية التنشئة السياسية، و لهذا فلن نتوسع في
مختلف التعريفات التي جاءت في إطارها.
(9)ناجي صادق شراب، السياسة : دراسة
سوسيولوجية ، العين : مكتبة الإمارات، 1984، ص 157.
(10)أحمد بدر، الرأي العام، طبيعته، و
تكوينه و قياسه و دوره في السياسة العامة، القاهرة : دار قباء للطباعة و
النشر و التوزيع، 1997، ص 194.
(11)نفس المرجع، ص 197.
*أنظر تفصيل كل مرحلة في كتاب ناجي صادق
شراب، مرجع سبق ذكره، ص 161 و ما بعدها.
(12) Georges Burdeau , Traité de science politique, Tome III, La dynamique politique, Paris, Librairie générale de droit et de jurisprudence, 1968, P 237.