التساؤلات الإجرائية أو الفرضيات؟

 

التساؤلات الإجرائية أم الفرضيات؟.

لا يخفى على الباحثين و المختصين في المنهجية، أن من بين أهم خصائص بل و شروط البحث العلمي، هو الدقة و الصرامة في استعمال أدواته و المفاهيم التي يقوم عليها، فهي مفتاح أساسي لفهم خبياه و مقاصده.

الفرضيات أو التساؤلات
التساؤلات الإجرائية أم الفرضيات؟

الأستاذ الدكتور تمار يوسف

تريد هذه المحاولة، الإجابة عن سؤال منهجي بسيط: هل ينبغي على الباحث في الدراسة العلمية، أن يعمل بالتساؤلات الإجرائية أو بالفرضيات، أو بكلاهما؟.

قبل البدء بالإجابة الإجرائية عن السؤال السابق، لابد من تفسير المقصود بالتساؤلات الإجرائية و الفرضيات، عسى أن تتضح لنا الفروقات المنهجية بينهما و من تمة قالب توظيف كل منهما في مختلف البحوث العلمية، إذ أن التوظيف الصحيح لهما، يعطي النتائج المتوصل إليها، بعد علمي دقيقة و موضوعية منطقية  وذات مصداقية عالية.

الفرضيات هي تلك الإجابات المسبقة التي يطرحها الباحث و تكون منابعها عادة، الملاحظة أو الدراسات السابقة أو التجربة و خبرة الباحث الفكرية أو المهنية، و على هذا الأساس فهي لا تأتي من فراغ أو بطريقة اعتباطية، بل لابد أن تكون مؤسسة علمياً و مقبولة على أنها فرضية منهجياً.

التساؤلات الإجرائية، هي مجموعة من الانشغالات التي يطرحها الباحث و التي يحاول الإجابة عنها من خلال دراسته، و تكون نابعة من الإشكالية الرئيسية للبحث، لأن في الحقيقة لا يمكن أن يجيب الباحث عن إشكالية دراسته في شكلها الخام، لذلك فهو يفتتها إلى مجموعة من التساؤلات و لذلك سميت بالإجرائية.

و عند الاستعمال، تخضع التساؤلات و الفرضيات إلى اعتبارات علمية و منهجية، و من تمة نجاح كل منهما في أصناف معينة من البحوث و الدراسات، و تكون أكثر فعّالية في استخدامها، غير أن هذه الاعتبارات ليست قوانين منهجية ثابتة، باعتبارها هي أيضا تخضع إلى متغيرات كثيرة لا يسع المجال إلى تحليلها، لذلك كان هذا المقال مجموعة من التوصيات المنهجية التي قد تساعد الباحث – المبتدأ على وجه الخصوص – من عدم الخضوع إلى إشكاليات ابستمولوجية تخص مفاهيم التساؤلات و الفرضيات، و التفرغ في البحث و التنقيب.

 أما الاعتبارات المقصودة هنا، فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1 - المستوى العلمي للدراسة.

2 - مستوى حرفية الباحث في البحث العلمي.

3 - التراكم المعرفي للدراسة محل التحليل.

4 – الفرضيات و التساؤلات بين الدراسات الكمية و الدراسات الكيفية.

الخاتمة.

و المقصود هنا، أن في المستويات الأولى من التكوين (الليسانس و الماستر و حتى الماجستير) ، يكون الهدف من القيام بالبحث عداة هو مقدرة الطالب أو الباحث على التمسك و تطبيق الأدوات المنهجية، فهو يتدرب على الإجراءات المنهجية و التعود عليها، و على هذا الأساس فهناك من يرى أن في هذه المراحل، من الأفضل أن يختار الباحث التعامل بالتساؤلات الإجرائية، لأنها من جهة سهلة * "نسبياً" في طرحها و بناءها، ثم أنها سهلة أيضاً من حيث أهدافها، أي أن على الباحث إيجاد إجابات عنها فقط عبر محاور يمكنه تحديدها لهذا الغرض.

أما على مستوى أعلى و أعمق في الدراسات و الأبحاث (الدكتوراه أو أبحاث المخابر أو مراكز البحث) فيمكن أن يضع الباحث جملة من الفرضيات يعمل من خلال بحثه على قياسها و تثبيتها أو نفيها.

العمل بالفرضيات، يحتاج إلى خبرة مسبقة تسمح للباحث من اكتساب نظرة علمية عن الظاهرة  و مكوناتها، كما تتطلب منه أيضاً تجربة في بناء الفرضيات سواء من حيث شكلها أو من حيث مضمونها، فليس كل ما يُطرح من فرضيات، يُعد فرضية.

أما الخبرة العلمية، فهي التراكم المعرفي المكتسب لدى الباحث، فتكون له خبرة طويلة في التخصص أو في التفكير العلمي حول ظاهرة أو مهتم بها، فيكون بذلك على دراية من القصور أو جوانب التفسير التي تحتاجها هذه الظاهرة أو تلك في تخصص معين، فلا يكون الباحث في هذه الوضعية متدرباً على التقنيات المنهجية، بل مبدعاً لها.

أما إذا غاب هذا التراكم و الخبرة المعرفية لدى الباحث، أي عند الباحثين المبتدئين، فمن الأحسن الاكتفاء بطرح التساؤلات الإجرائية التي لا تتطلب في الحقيقة معرفة علمية كبيرة عن الظواهر إلا الاتقان في طرح الإشكالية و ضبطها و منه استخراج التساؤلات.

يتوقف أيضا استعمال الفرضيات أو التساؤلات أو كلاهما، على طبيعة الظاهرة في حد ذاتها، و مدى توفر المعلومات الكافية لطرح الإشكالية حولها، و الكم المعرفي التراكمي حولها، بمعنى آخر، مدى توفر البيانات والحقائق، وكفاية الإطار النظري والأدبيات العلمية التي تسمح بالاستقراء أو الاستدلال عن وجود العلاقات بين المتغيرات أو غيابها، ففي بعض النظريات مثلاً في مجال الإعلام و الاتصال، تطرح فرضيات للقياس على شاكلة نظرية ترتيب الأولويات، نظرية لولب الصمت .. فهذه النظريات تقدم فرضياتها بناء على ما توصلت إليه من نتائج للقياس في مختلف الأوضاع، أما إذا كانت الدراسة من نوع الدراسات الوصفية الاستكشافية، أي الدراسات البكر التي لا تتوفر حولها معطيات نظرية، هنا من الأفضل العمل بالتساؤلات الإجرائية.

قد يعود استعمال التساؤلات الإجرائية أو الفرضيات في البحث العلمي، إلى طبيعة و اتجاه البحث نفسه، من كونه ينتمي إلى الدراسات الكمية الإمبريقية، أو إلى الدراسات الكيفية** الإثنوغرافية، فهذا التباين يحدد استعمال هذا الإجراء أو ذاك.

فالمقترب الإثنوغرافي الكيفي، يركز على فهم السلوك في سياق اجتماعي عبر مشاركة الباحث في الوضعية المدروسة مشاركة فاعلة ضمن الفريق موضوع الدراسة، فهو ينزل إلى الميدان إن صح التعبير دون أن تكون له خبرة علمية مسبقة عن الظاهرة و مكوناتها، فهو يستمد كل ذلك من خلال احتكاكه بالظاهرة محل الدراسات ليستنتج ما يراه (الملاحظة) و ما يسمعه (المقابلة)، و على هذا الأساس فهو لا يحتاج إلى بناء فرضيات مسبقة عن الظاهرة،

أما الدراسات الكمية ***، و باعتبار أنها تنطلق من مفهوم أن الحقيقة الاجتماعية لا توجد سوى في حالتها الملموسة و المستقلة عن كل رأي أو موقف، وتنتظر أن تُستطلع وتُكتشف من خلال أدوات منهجية موضوعية هي أيضاً (الأرقام و الأعداد و النسب الكمية )، فقد يتزود الباحث ببعض الفرضيات التي يعمل على قياسها من خلال ذلك الواقع الاجتماعي الموضوعي.

و على هذا التباين، فإن الباحث قد يحدد استعماله للتساؤلات الإجرائية و الفرضيات، و هذا لا يعني بأي حال من الأحوال، رسم حدود لا يجوز تخطيها، لكن النظر في البعدين من حيث نجاح كل منهما في الوصول إلى نتائج موضوعية و مقبولة علمياً. 

لا يكتمل الحديث عن التساؤلات الإجرائية و الفرضيات بهذه البساطة، لكن الغرض من وضع هذا المقال هو التدليل المبدئ فقط لما يمكن أن يخفف و يوجه و يحدد للباحث القواعد المنهجية السهلة في تناول المواضيع البحثية و دراستها، لذلك فنحن لم نقل كل شيء عن التساؤلات الإجرائية و لا على الفرضيات، فهذا مستوى آخر من التحليل المنهجي. و الله من وراء القصد و هو السميع العليم.



الهوامش.

*   لا ينبغي فهم هذه الكلمة على أن وضع التساؤلات الإجرائية سهلة لا تحتاج إلى عناء فكري أو إجرائي، لكن المقصود منها أن تحتاج فقط إلى مرجعية دقيقة و مضبوطة و هي الإشكالية، بينما الفرضية فهي تحتاج إلى بعد فكري و مرجعية نظرية لبنائها.

**  تشير الدراسات الكيفية باختصار شديد إلى منهجية للبحث بالمشاركة، يهدف إلى جمع بيانات غير إحصائية لفهم آراء الناس عن خبراتهم المعاشة، و إدراكهم للمشاكل والقضايا (référence). ويضرب هذا النوع من البحوث بجذوره في علم الانثروبولوجيا.

***  تشير الدراسات الكمية إلى تلك البحوث التي يعتمد استخدامها على المؤشرات العددية والإحصائية لدراسة الظواهر الاجتماعية وتحليلها بصورة يسهل فهمها والتعرف على العوامل المتداخلة. بها أنظر على سبيل المثال: طه عبد العاطي نجم، مناهج البحث الإعلامي، الإسكندرية: دار كلمة للنشر والتوزيع، ط 1، 2015،  ص 23)

1 تعليقات

أحدث أقدم

نموذج الاتصال