مســـاورات السؤال عن التلـــــفزيون.
مســـاورات السؤال عن التلـــــفزيون.
ما تسبب لكم الضرر ليست الأشياء التي لا
تعرفونها، بل الأشياء التي تعتقدون أنكم تعرفونها، وهي خاطئة.
مارك توين – كاتب أمريكي ساخر.
لاشك أن المخرج الفرنسي "جون لوك غودار" كان يمزح مع محدثيه عندما عرّفهم على الفرق بين السينما والتلفزيون بقوله: من يشاهد فيلما في شاشة السينما يرفع رأسه، و من يشاهد برنامجا تلفزيونيا يطأطئه. نعم إنه يمزح لأنه يدري، العديد من تابعوا برامج التلفزيون ورؤوسهم مرفوعة يتأملون ما تبوح به وما تريد أن تخفيه. بل أنه بعضهم قاده تأمله للحديث عن نهاية التلفزيون. فأكد بأننا غير واعين بأن التلفزيون يغرق أمام نظرنا في يم الشاشات الصغيرة، وفي عالم الشبكات والهواتف المتنقلة. و يتشظى في غابة البرامج والمحطات ذات التخصصات المجهرية. إنه يحُمل من الانترنت ويصب في " البودكاست" Podcast ، و I-pod . إنه موجود في كل مكان واللا مكان. وقد أنهاه تأمله للتساؤل عن كيف يكون حال المجتمع بدون تلفزيون؟ وحتى نخفف من هول هذا السؤال يمكن القول إن إشكالية نهاية التلفزيون تعطي الحيوية للبراديغم paradigme المتعلق بالفضاء التقنو ميدياتيكي، الذي يعبر عن مسار مستأنف لإعادة تشكيل التجربة الإنسانية، على حد تعبير مرشال مكلوهان الذي أكد على أن كل وسائل الإعلام هي استعارات نشيطة للتجربة الإنسانية عبر أشكال جديدة.
لعل الجديد في مقولة نهاية التلفزيون لا تكمن في الأداة فقط، بل في التغيير الذي طرأ على مفهوم الجمهور في ظل استشراء ظاهرة ما بينية وسائل الإعلام Intermédiaté مما يدفع للسؤال عن ماهيته ومآله في ظل بروز وسائل الاتصال الجماهيري الفردية Self mass media (الصادق الحمامي، 2008) والتساؤل، أيضا، عن حدود الهوية الافتراضية التي تتيحها الشاشات العديدة في سعيها للقفز على "محرمات" الهوية الاجتماعية. (الصادق رابح، 2008) إذا كان البعض يفكر في ما بعد نهاية التلفزيون، فإن العديد من الكتابات العلمية التي نشرت في السنوات القليلة الماضية عن التلفزيون في المنطقة العربية، وكانت البوابة العربية لعلوم الإعلام واجهة لبعضها، تبين، بحق، الميلاد الثاني للتلفزيون في الفضاء العربي، أو لنقل نشأته المستأنفة القوية، بعد أن فُتحت الأبواب للرأسمال العربي والأجنبي للاستثمار في القطاع السمعي-البصري، وبرزت، بشكل استعراضي، العديد من القنوات المتخصصة والجامعة على أسس تختلف على ما ألفه الجمهور مع القنوات الحكومية.
إن الهاجس الأساسي الذي جمع الباحثين والمهنيين في المنطقة العربية حول التلفزيون تجلى في النقاش حول التبعات الاجتماعية و الثقافية للبث التلفزيوني المباشر في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولا زال صداه يتردد إلى الآن. وإن كان انشغاله قد تبدل. ففي ذاك الوقت كان قائما على السؤال التالي: هل أن الاستثناء الوطني والثقافي الذي تحكم في ميلاد التلفزيون وتطوره قد بلغ مداه وتجاوزته الأحداث؟. أما في الظرف الحالي فقد توجه إلى طرح السؤال الخاص بالعلاقة بين الهوية الوطنية أو الثقافية والعولمة، والعلاقة بين المحلي والكوني. بصرف النظر عن هذا التبدل، يمكن القول أنه لولا بعض الكتابات القليلة الجادة والجديدة بإشكالياتها وأدواتها المنهجية وبعدها التنظيري، التي نشرت عن التلفزيون في المنطقة العربية خلال السنوات القليلة الماضية، لأعتقد كل مهتم بالتلفزيون أن النشر العلمي و النقاش الأكاديمي حول التلفزيون ظل يتراوح في المكان ذاته. والسبب في ذلك يكمن في نقص شرعية البحث في علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية أو انعدامها، من جهة، و انتفاء الحاجة المعرفية للبحوث الاجتماعية بصفة عامة، والإعلامية بصفة خاصة، لأن السلطات العمومية حددت، مسبقا، وظائف وسائل الإعلام، واعتبرت أن المشاكل التي تعترضها مرتبطة بالبعد الإجرائي وليس التصوري.
إن علم الاجتماع الثقافي في الدول العربية ترفع عن دراسة التلفزيون كموضوع اجتماعي، واهتم بأشكال الاتصال الثقافي التقليدية: السينما والمسرح، أو ما تُسمى بـ (مؤسسات الشرعية الثقافية). أما المختصون في الإعلام في الدول العربية، الذين اشتغلوا في ميدان البحث العلمي، فلم يلتفتوا، في الغالب، إلا للجانب الإخباري أو الإعلامي والإعلاني في نشاط القنوات التلفزيونية العربية من خلال تحليل المضمون لاستجلاء قصد المؤسسة من الرسالة. وظل هذا الاهتمام موسوما بنزعة وصفية وتبريرية، نائية عن الإقليم الرمزي الذي يفصل الواقع عن الخيال، وحاصرة إشكالية التلفزيون في التأثير. إن هذا الأمر يذكرنا بما كتبه الباحثان Jonozitz و Schulze، في أول عدد لأول مجلة أكاديمية فرنسية في علوم الإعلام سميت: "اتصال" Communicationفي السنة 1960، معاتبين نظرائهم سوسيولوجي وسائل الإعلام على اهتمامهم المفرط بمضامين هذه الوسائل وتأثيرها على الجمهور، إذ تساءلوا هل أن علماء الاجتماع الذين اهتموا بالصناعة شرعوا، في البداية، بدراسة المنتجات الصناعية وسماتها وردات فعل المستهلكين تجاهها بدل البحث عن البنية الاجتماعية للصناعات، والعلاقات التي تنسجها بين الأشخاص؟
حتى لا ننصرف إلى جلد الذات، الذي أصبح فعلاً تبريرياً غير مكلف، يمكن القول أن الاهتمام الأكاديمي العربي بالتلفزيون، كان يشبه، إلى حد ما، الوضع الذي كان عليه البحث العلمي حول التلفزيون في فرنسا قبل عقود من الزمن. فما سر هذا التشابه حتى في الدول العربية البعيدة عن النفوذ الفرانكفوني، و التي لم تتأثر بالدراست الانجلوسكسونية التي تعاملت، منذ ما يقارب نصف قرن، مع التلفزيون اجتماعي و ثقافي، خاصة بعد انتشار الدراسات الثقافية Cultural Studies
لعل الخشية من " ثقافة العاطفة" التي بدأت تسود، باستبداد، في العديد من القنوات التلفزيونية العربية، وغياب مفهوم الخدمة العمومية ليس على صعيد الممارسة في العديد القنوات التلفزيونية فحسب، بل، أيضا، على صعيد الفكر والتصور، فتحا المجال لمساورات السؤال عن التلفزيون، في المنطقة العربية، الذي يحاول أن ينهض وسط ركام اليقينيات، ليحاور تداعيات العلاقة بين رأسمال المادي ورأسمال الرمزي الجديد الذي يشكل التلفزيون موضوعه وأداته.
لقد
شكلت البوابة العربية لعلوم الإعلام رافداً هاماً لمجموعة من النصوص حول التلفزيون
التي تتجاور وتتحاور ضمنيا. ويمكن القول أن الحوار سيدفع بالسؤال، إن آجلاً أو
عاجلاً، إلى مداه ليتحول إلى إشكاليات معرفية تحث، بجدتها، على إحداث قطيعة
مع أشكال التفكير المكتسبة بفعل العادة والتعود، وتستدعي شحذ أدواتها الدراسية. إن
بلوغ هذه القطيعة لن يحدث بين عشية وضحاها بدون الإضافات النوعية التي تتعدد بتنوع
الهواجس التي تعبر عنها النصوص المذكورة، وغيرها، والتي نحاول أن نحصرها تجاوزا في
النقاط التالية:
-
البرامج الحوارية والديمقراطية التشاركية المباشرة (نهوند القادري عيسى):
هل يمكن القول أن الحوار التلفزيوني يُعد فعلاً تعويضياً لغيابه في الساحة الميدانية؟
وهل يمكن تصور حوارا بدون تمثّل القناة التلفزيونية للجمهور سواء داخل
الأستوديو أو خارجه؟ وأية ديمقراطية يمكن ترسيخها في ظل استشراء فكرة
الجمهور-كمباس؟
- موسيقى البصر في النص و الصورة التلفزيونية ودلالتها التعبيرية والإيحائية (فؤاد
عبد العزيز): إن هذه الموسيقى تشخص جمالية التعبير التي تدعونا إلى التفكير
في الصعوبات التي تواجه القنوات التلفزيونية في جعل المشاهد يفكر عبر الصور، والذي
لا يمكن أن يتحقق دون تمكين الصورة التلفزيونية في الشاشة الصغيرة العربية من
الرقي بالسرد المرئي. هل هذا ممكن في زمن تراجع فيه السرد التلفزيوني بالكلمات
مهددا وجود التراث السردي العربي الثري؟
- القيم
المتلبدة في الاستعراض التلفزيوني (شطاح محمد): ما مدى الوعي بلا مرئية القيم في
النص الإخباري المرئي ومقدرته على إماطة اللثام على التداعيات العالمية للانتقال
من الواقع العيني إلى الواقع التمشهدي في التلفزيون.
- برامج التراث الشعبي في التلفزيون بين الثقافة الشفهية والمرئية (محمد
عايش): هل أن النظرة النقدية للممارسة التلفزيونية تساعدنا على إدراك موقع الثقافة الشعبية عندما تصبح فلكلورا في الشاشة الصغيرة؟ ألا يفقد
التراث الشعبي الذي "يطبخ" تلفزيونيا الكثير من محتواه التواصلي
والرمزي، و يتحول إلى بقايا ثقافية في زمن لا يهتم فيه التلفزيون إلا بما أصبح
يعرف بالثقافة "العادية" المندمجة في الحياة اليومية؟
- برامج تلفزيون الواقع وتمثلها في القنوات التلفزيونية العربية ولدى الجمهور (نصر الدين لعياضي): ألا تكشف النظرة الفاحصة لهذه البرامج عن الحدود المعرفية
للنسبية الثقافية والتجانس الثقافي في دراسة تلفزيون الواقع في السياق الثقافي
والسياسي العربي؟
-تعدد
القنوات التلفزيونية وتكريس العنف الممارس ضد المرأة (م.م صفد حسام خمودي
الساموك): هل أن الحديث عن العلاقة المتسترة بين المجتمع والتلفزيون عبر
موضوع العنف يمكننا من إدراك رهاناته في ظل تشيؤ الإنسان وتسليع المرأة؟
- وضع الإعلامية
العربية في الفضاء السمعي – البصري (صباح المحمودي): أين علاقات التشابه
بين بروز جيل من الإعلاميات في التلفزيون العربي وإستراتيجية قنواته في
استثمار الجسد تجاريا من خلال التركيز على المرأة في الإعلانات، وتكليف
ملكات الجمال بتقديم برامج تلفزيونية؟ لقد صرح لنا أحد الصحافيين المتمرسين قائلا:
إن المرأة تعد أفضل من الرجل في العمل التلفزيوني لأنها تملك أحساسا بالصورة أفضل
من الرجل. فما حقيقة هذا الأمر في ظل ما نرى في الشاشة الصغيرة العربية؟
- الفضائيات الإسلامية المتخصصة (رضا عبد الواحد أمين): ما هي العلاقة بين تزايد
عدد القنوات الترفيهية وارتفاع عدد القنوات الإسلامية في المشهد الفضائي العربي؟
وما سر انتشار قنوات التدجيل والشعوذة في المجتمع العربي الذي تزايد عدد المتعلمين
فيه و تعددت مصادر العلم والمعرفة فيه. وما هي تمثلات مشاهدي هذه القنوات
للتلفزيون؟ أليس من الأجدى علميا أن نقرأ تطور التلفزيون انطلاقا من تطور
المجتمعات العربية؟.
المراجع والهوامش:
- Missika Jean-Louis
( 2006):
- جون ماري بيام ( 2003): التلفزيون كما نتحدث عنه، ترجمة نصر الدين
لعياضي، دار عيون المقالات، المملكة المغربية
- Janowitz et schulze (1960): revue communication, France, No 1 cite par:
Beaud Paul ( 2000) : Brève histoire de la
sociologie française des medias, Revue Réseaux, France, no 100, CNET/Hermès,
- يمكن أن نستثني الدراسة الهامة التي نشرها الباحثان: بيار دو بورديو، وجون
كلود بسرون، بعنوان : مثيولوجية علماء الاجتماع، وعلماء اجتماع
المثيولوجيا في مجلة : Temps moderne في سنة 1964 – أنظر الترجمة
التي قمنا بها للدراسة المذكورة في المجلة الجزائرية لعلوم الإعلام، عدد 16 ديسمبر
1997.
- Dayan Daniel, 2000, " Télévision : le presque public ",
CNET/Hermès, Réseaux
n°102
- عزي عبد الرحمن(2008): الرأسمال الرمزي الجديد: قراءة في هوية
وسوسيولوجية الفضائيات في المنطقة العربية، نشر في كتاب جماعي بعنوان: ثورة
الصورة المشهد الإعلامي وفضاء الواقع- مركز دراسات الوحدة العربية.