المقهى كفضاء عمومي

شاي، قهوة، سياسة، رياضة وحتى الزواج والطلاق “المقاهي الجزائرية أهم مطبخ لصنع القرارات”.

لم تعد المقاهي الجزائرية، خاصة في الأحياء الشعبية العريقة، مجرد مكان يتجمع فيه الرجال صباحاً أو عند المساء لشرب القهوة أو الشاي فقط..

الفضاء العمومي
المقهى كفضاء عمومي

تمتلأ المقاهي في الجزائر عن آخرها منذ ساعات الصباح الأولى إلى آخر المساء، في وسط المواضيع الساخنة والحساسة التي تُناقش أمام فنجان القهوة، الوضع الذي يستدعي منا الوقوف بشيء من التأمل أمام ما يسميه الدكتور يوسف تمار "ظاهرة المقهى"، لمعرفة سر هذا المكان و خصوصيته التي جعلت منه فضاءاً عمومياً بكل معانيه و مقاييسه. 

أكد البروفيسور يوسف تمار، دكتور وباحث في علوم الإعلام والاتصال، لـ "الفجر"، أن المقاهي المنتشرة هنا وهناك في الأحياء الجزائرية، خرجت منذ زمن بعيد من كونها مجرد كيان مادي ملموس لاحتساء المشروبات و تمضيت بعض الوقت في تصفح الجرائد، إلى مطبخ صناعة القرارات مهما كان نوعها، مؤكداً أن هذا الوضع ليس نابعاً من مجرد ملاحظة عابرة أو ظرفية، بل هو نتاج تخمينات علمية عميقة حول نتائج دراسات لحركية الرأي العام و استطلاعات الآراء التي كانت تتداول في المقهى.

قد يتعجب الملاحظ من تخلص بعض أصحاب المقاهي من الكراسي داخل المقهى لاستيعاب العدد الكبير لمرتاديها، أوقد نتفاجأ أن هدفهم من ذلك هو دفع الزبون للمغادرة فور انتهائه من احتساء فنجان قهوته، إلا أننا قد نعذر أصحاب هذه الأماكن عندما نعلم أن المقاهي لا تخلو من هؤلاء الجالسين فيها منذ الصباح إلى المساء، وهذا ما يبرره الدكتور تمار..أن دولة مثل الجزائر لاتزال فيها وسائل الترفيه قليلة و غير متوفرة بما فيه الكفاية، وغير قادرة على أن تكون في البرنامج الترفيهي للمواطن الجزائر، لذا يعتبر المقهى ملجأ المواطن الأول للراحة و الاسترخاء و البحث عن المعلومة وعن التقصي عنها أيضاً، حتى ولو كان مصدرها أشخاص دون المستوى العلمي الذي يسمح له الخوض فيها، إلا أن ذلك يمنحه مصدراً موثوقاً من المعلومات. كما أكد أن مثل هذه الأماكن لا تلعب في الدول المتقدمة نفس الدور، لأن وسائل الاتصال عندهم متقدمة جدا حتى أصبحت جزءا من حيتهم الاجتماعية.

ما هو سر المقهى؟ يرى الدكتور تمار أن المقهى أصبح ينتمي إلى مقدسات الجزائري، فهو لا يدع أي مناسبة تمر دون تبادل المعلومات، وهذا ما نلاحظه في الأفراح والمآتم والأعياد، و على هذا تُعد المقهى من بين هذه الفضاءات التي تسمح له بتبادل المعلومات كما تُعد المقهى أيضاً، الفراغ الذي يملأ يومياته، بخاصة إذا علمنا أن الجزائر، و خاصة المدن الكبرى منها، لا تحتوي على مرافق ترفيهية كثيرة، هذا ما جعل المقاهي فضاء تعويضي أو البيت الثاني كما يعبرون عنه، والمتنفس الوحيد للتعبير عن انشغالاتهم والحديث عن همومهم بحثاً عن حلول قد تنبع من تبادل التجارب.

يجتمع في المقهى، أفراد ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة، فهي لا تُعد حاجز لتجمعهم فيها، الأمر الذي قد يعزز حسب الدكتور تمار، التواصل الاجتماعي بينهم، خاصة إذا كانوا من نفس الحي. كما يعتبر الوضوح والشفافية التي يرسخهما المقهى بكشف كل المستور من انتماءات طبقية وفكرية بل وحتى المدخول الشهري للفرد، أكبر دافع لتقوية التواصل الاجتماعي، وكذا لاعتبار المقهى أكثر مكان مريح يلجأ إليه الفرد لتفادي همومه. المقهى مطبخ لصنع القرار..! يعتبر العديد من رواد المقاهي أنها مصدر من مصادر المعلومات الرسمية، أو حتى الإشاعات، كما يتم فيها التعليق على الأحداث التي تعرضها وسائل الإعلام وتحليلها بمنهج تفكير الجزائري البسيط. وفي ذات السياق، يؤكد الدكتور يوسف تمار: “القرار يطبخ ويهيئ في المقهى، وعندما نقول القرار هنا ليس بالضرورة أن يكون قرارا سياسيا، فحتى القرارات التي لها علاقة بالمسائل الاجتماعية أو الشخصية تبنى في المقهى، غير أن القرارات السياسية تحتل الصدارة”. وفي هذا الاطار، يعتبر نفس المتحدث أن كل ما لوحظ خلال المناسبات السياسية أوالاجتماعية في الجزائر يدفعنا لتأكيد الفرضية التي تقول: إن دور المقهى أقوى بكثير من الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في صنع قرار الجزائريين. وفيما يخص المراد بصنع القرار في هذا الفضاء الاجتماعي، يقول الدكتور يوسف تمار أنه يدور حول تواجد “قائد الرأي” الذي من الصعب تحديد شخصيته، فهو الشخصية التي تمتلك قوة اقناع الآخرين والذي يتمتع بشعبية في جماعته الأولية، والأهم من كل ذلك - حسب الدكتور تمار - كونه الأول من يحصل على المعلومة. 

المقهى في الجزائر، هو المكان الأنسب لحل النزاعات وعقد الصفقات فكثيراً ما مرت على مسامعنا عبارات “نتلقاو في القهوة نتفاهموا”، أو عبارة “جيب السلعة للقهوة نتفاهمو عليها”، أو “نعطيك دراهمك فالقهوة” وغيرها.. وإن دلت هذه التعابير عن شيء، فإنما تدل على أن المقهى في ثقافة الجزائري أفضل مكان لإبرام العقود وحل النزاعات والتفاهم على أمور البيع والشراء، ما يبرره الدكتور يوسف تمار بكون المقهى ميدانا حياديا يمكن فيه حل النزاعات دون تحسس، كما أن تواجد العديد من أهل الحي المقربين قد يساعد على الصلح والتفاهم. أما بالنسبة للصفقات الصغيرة التي تتمثل في بيع هاتف نقّال أو كراء منزل فعقدها في المقاهي دليل على انعدام المرافق الأخرى.

العاصمة تحتل الصدارة 

يرى الدكتور يوسف تمار أن دور المقهى في العاصمة أقوى اجتماعياً من دورها في المناطق و المدن الأخرى، مرجعاً ذلك إلى كون المواطن العاصمي قد توارث انتماءه للمقاهي منذ عهد العثمانين، واستمرت هذه العادة لتصبح جزءاً من يومياته حالياً، فالمتجول في أزقة باب الوادي -على سبيل المثال- أو بلوزداد أو الحراش ..، قد يلاحظ مدى ارتباط أهل الحي بمقهاهم.

و على الرغم من الخدمات المتعددة التي تمنحها المقاهي للجزائري، إلا أن سلبياته كثيرة أيضاً، إذ ينوه الدكتور يوسف تمار أن المقهى يشجع الشباب على البطالة وتضييع الوقت، فالكل هناك يعمل على تقديم مبررات البطالة، مما قد يشجع البعض على قبولها كوضع طبيعي ليس للفرد سبب فيه.

كما يمكن  للمقهى حسب الدكتور تمار دائماً، أن تكون ملجأ للآفات الاجتماعية المختلفة و العادات السيئة التي تنتج عن تفاعل الأفراد في جماعات اجتماعية صغيرة، مما قد يأثر سلباً على نمو الفرد و إطلاعه على ما يجري خارج جماعاته.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال