الحراك الجزائري، نداء شعب أم نداء رأي عام؟.
أ.د. تمار يوسف
يحق لنا من الناحية
العلمية، أن نصف الجماهير المشاركة في المظاهرات التي حدثت و تحدث في الجزائر
حالياً، تسميتها بالرأي العام، ذلك أن هذا المفهوم أقوى و أكثر عمقاً من المفاهيم
الأخرى المجاورة، فقد توفرت كل شروطه في ما يحدث في البلاد بناءً على أدق تعريف
للرأي العام على أنه مجموعة الإرادات التي تنشأ عند جماعة اجتماعية واحدة حول قضية
معينة على أنها تشكل مصيرهم و محددة لحياتهم بأبعادها المختلفة، فهي لا تكون إلا
مشتركة و لا تخص قضايا شخصية، و الشرط الثاني للحديث عن الرأي العام الجزائري فيما
يحدث، أن لا تكون تلك الإرادات مكبوتة بل معبرة في شكل من أشكال التعبير المعروفة،
و في مقامنا هذا أخذ التعبير شكل التظاهرات و التجمعات الجماهيرية طيلة الأشهر
الثلاث من سنة 2019.
![]() |
| الرأي العام |
و أكبر دليل على أن ما
يحدث في الجزائر هذه الأيام، هي من تعبير رأي عام جزائري، هو التراضي الحاصل بين
أفراده، أي تنازل هؤلاء عن جزء من رأيهم نحو موضوع معين (رفض النظام القائم و
بقاءه) مع علمه التام بصواب رأيه و ذلك في سبيل الوصول إلى رأي واحد و حل مشكلة
هذا الموضوع على أي صورة.
يُعد مصطلح الرأي العام أدق و أعمق من مصطلح الشعب فيما يحدث في الجزائر، فإذا كان الأول يغطي كل من يعيش تحت وصاية الدولة الجزائرية و قوانينها سواء كان جزائرياً أم لا، فإن الثاني يخص كل من هو جزائري الجنسية، و بالمقارنة لما وصلت إليه الاحتجاجات الأخيرة من اتساع فإن المصطلح الأول أي الرأي العام الجزائري، أكثر دلالة للتعبير عن طبيعة المشاركين فيها، لكن من حيث الخطاب السياسي، فقد وجد مصطلح الشعب الجزائري تأثيراً سياسياً و إعلامياً، أكثر عميقاً و شمولاً من مصطلح الرأي العام الجزائري، و عليه فقد تبنته كل أنواع الخطابات لما قد يحدثه من تأثير نفسي على سامعيه، لكن لماذا علينا أن نسمي الحراك الذي يحدث في الجزائر على أنه رأي عام جزائري؟.
الإجماع حول قضية واحدة.
لا داعي من محاولة البحث عن طبيعة القضايا
المرفوعة من طرف الرأي العام الجزائري في تمظهره، فهي واضحة و هادفة من خلال
الشعارات التي تعبر عن طبيعة تلك القضية و مطالبه منها، فقد التف المتظاهرون حول
قضية رحيل النظام كشعار مشترك بين كل أعضائه، و هذا الإجماع لا يضاهيه تاريخياً،
إلا ظهور الرأي العام الجزائري و موقفه الموحد و الرافض للاستعمار الفرنسي.
لم يكن ظهور الإجماع حول
قضية رحيل النظام بكل رموزه، ظهور ارتجالي، و لا مخطط و نتيجة لسياسة الاحتواء، بل
متنامي غدته بصفة خاصة الأوضاع السياسية و الوقائع الاقتصادية و الشائعات
الإعلامية و الأحداث السلبية التي كانت تتنامى بدورها من المحادثات اليومية لأفراد
المجتمع في مختلف الفضاءات، فكانت تتمظهر من حين إلى آخر على شاكلة مظاهرات 14
جوان 2001، و انتفاضة "الزيت و السكر" سنة 2011، و تمظهرت أيضاً في
التعبير عن واقع التنمية في ولايات الجنوب يوم 18 سبتمبر 2018، كلها
شكلت التراكم الذي مهد الطريق لهذا التعبير الواسع للرأي العام
الذي يحدث منذ مدة من عمق و شدة التعبير و عدد المشاركين و انتشارهم،
علاوة عن طبيعة القضية التي وصفها العارفين في الشؤون السياسية، أنها مست عدد كبير
من شرائح المجتمع الجزائر ي بداخله و خارجه.
لقد صدق الأستاذ ناصر
جابي في إحدى مقالاته الصحفية حين قال، أن الإجماع حول قضية رحيل النظام، نتجت عن
إحساس الرأي العام الجزائري، " بالإهانة الكبيرة جداً
هذه المرة والرئيس يترشح لعهدة خامسة بعد عشرين سنة من الحكم، فقد أفاض هذا الترشح
كأس الجزائريين الذين كانوا غير راضين تماماً على نظامهم السياسي لكنهم سكتوا
وتنازلوا خوفاً على البلد ومهادنة لسياسة شراء السلم الاجتماعي التي برع فيها
النظام لسنوات اعتماداً على الريع، دون أن يمنعهم هذا السبات السياسي من التعبير
بعدة أشكال لم ترق دائما إلى الأشكال الجماعية التي أخذها الاحتجاج الحالي وهو
يأخذ تعبيرا سياسياً واضحاً. فقد تألم الجزائريون كثيراً وهم يشاهدون كيف كان
يستهزأ الإعلام الغربي والفرنسي تحديداً برئيسهم المقعد المرشح لعهدة خامسة على
رأس مجتمع شاب لم يعد يقبل ما قبلت به أجيال كبيرة في السن عرفت العمل السري
والخوف ".
إن الإجماع حول قضية موحدة، هو من بين أهم مكونات الرأي العام، فهي لا تحدث إلا نادراً لطبيعة المجتمع و تكوينه السوسيولوجي و اختلاف مقاصدهم و أهدافهم، أما إذا اجتمع هؤلاء حول قضية يشتركون فيها، و اتفق على أنها تشكل مقصدهم الموحد، فإننا أمام بداية تكوين الرأي العام، و القضية في هذا الشأن هي إسقاط النظام الحاكم و رفض استمراره.، لكن الإجماع حول قضية مشتركة ليست الشرط الوحيد للحديث عن رأي عام جزائري، بل هناك شروط أخرى منها:
طبيعة المشاركين في التظاهرات
لا أحد – و بخاصة الموالون للنظام - استطاع
أن يقزم المظاهرات في شريحة اجتماعية معينة، و لا في منطقة معينة، ذلك أن واقع
الحال يؤكد على تنوعها الاجتماعي و السياسي و الجغرافي بل و الطبقي أيضاً، فكان من
بين المتظاهرين، الطالب، التلميذ، الأستاذ، البطال، المهندس، الطبيب، المحامي، القاضي،
الإمام، المنتخب، المنخرط، .. بل و حتى الشرطي الذي أظهرته مقاطع من فيديو و هو
يساند الحراك، و هذا الغموض في عدم حصر الحراك في فئة اجتماعية معينة،
هو الزخم والتنوع السوسيولوجي الذي صبغ المشاركين فيه، أما من حيث الانتشار
الجغرافي، فقد شهدت ولايات الوطن 48 تنظيم مسيرات حاشدة و معبرة عن الرفض القطعي
للنظام و مكوناته، فقد شملت حتى سكان أقصى الجنوب الذين – و هذا عكس ما كانت
تحاوله السلطة من حصرهم في السياحة و التقاليد و القضايا الثانوية بالنسبة
لقضاياهم المصيرية - أثبتوا أنهم في قلب المشاكل التي يعانونها كل سكان الوطن.
لقد بقيت السلطة السياسية في الجزائر، و
لعقود من الزمن، ترى أن الرأي العام الجزائري ما هو إلا مجموعة من الحشود لا
تنميها أي إرادة جماعية، و لا يمكن أن تجتمع على أمر، فهو فاقد لذلك التجانس بين
أفراده و على ذلك أخذت تستفزه من خلال قراراتها الارتجالية و سياساتها
الفاشلة بدليل على المبالغ المالية الهائلة التي لم يرى فيها هذا الرأي العام أي
مظاهر إلا ما قد تقوم به أفقر الدول في العالم، لكن هذه المرة أثبت الحراك الشعبي
للرأي العام الجزائري ما يلي:
- أنه
موجود في باطن حياة المواطن اليومية، و في مختلف الفضاءات العمومية، من مناقشات و
تعليقات و ما يترتب عنها من أفعال و تصرفات و سلوكات.
- أن
هذا الرأي العام تغذيه خلفيات من التراث و التقاليد الراسخة، فضلاً عن تكاثفه حول
مفاهيم معينة واضحة و محددة.
- أنه يجمع في طياته كل مقومات الرأي العام بمفهومه الحديث، وجود إرادات إزاء القضايا المجتمعية، وسائل التعبير عن تلك الإرادات، التنظيم، الوعي، التجمهر، الشعارات المعبر ..
شيء عن دور وسائل الإعلام في تكوين الرأي العام الجزائري
لم تكن وسائل الإعلام – على الأقل التقليدية
منها – من صحافة مكتوبة و قنوات تلفزيونية و إذاعة، في المستوى الذي ينبغي أن تكون
عليه في مثل هذه الحالات، فمن ناحية أخفقت في التنبؤ بالحراك الشعبي و تعبير الرأي
العام الجزائري عنه، و من ناحية أخرى لم تغذيه من حيث عدالة الطرح، و عادت إلى
أسلوبها المعتاد و هو الترقب حتى لا تقع تحت طائلة سيف الحجاج و تصبح من الْمَغْضُوبِ عليهم، هذا الوضع
كان على الأقل في بداية الحراك، حيث لم تكن تتوقع هذه الاحتجاجات لا من حيث شكل
التعبير عنها و لا من حيث جديتها و عمقها.
يؤكد خبراء السياسة و الإعلام أن الرأي
العام و بخاصة الظاهري منه، ينتج في العادة عن طريق وسائل الإعلام و المنظمات
السياسية و الاجتماعية و الثقافية التي تعبر عنه و تمارس تأثيراً على سلوك
مكوناته، أو على الأقل وفق نظرية "جدول الأعمال " Agenda setting"
في علم الإعلام السياسي، توجهه إلى ما ينبغي أن يكون من خلال التغطية الإعلامية
المكثفة و الطرح الموضوعي و نقل الخطاب، لكن ما حدث هو العكس، أي أن وسائل الإعلام
عندنا ركبت القطار و هو يسير، فكان ركوبها غير موفق إلى حد بعيد.
الوضع السابق نتج عنه ما يلي:
- ظهور
إشاعات حاولت أن تغذي الرأي العام بكم هائل من المعلومات أغلبها في الاتجاه غير
الصحيح، أخذت لها منابر وسائل الإعلام بمختلف أشكالها من صحافة ورقية أو
تلفزيونات خاصة أو مواقع إلكترونية أو شبكات التواصل الاجتماعي.
- بناء
الواقع السياسي الجزائري، على تكهنات أكثرها لا يعكس عمل النظام الذي زاده بسلوكه
السيئ في الاتصال السياسي مع جماهيريه، غموض عن طريقة الصمت.
- ظهور
شخصيات غير مرغوب فيها في وضع لا يعكس مهامها الحقيقة في الساحة السياسية.
- ظهور
شخصيات غير معروفة لرئاسيات 2019، فهي شخصيات ظهرت من خلال الفوضى الظاهرة للخريطة
السياسية الجزائرية، و ليس من صنع الرأي العام و لا من صنع وسائل
الإعلام.
- لم
تكن فكرة تغيير النظام من مطالب وسائل الإعلام في بداية الحراك، بل من أعماق
توجهات الرأي العام.
- بعض
وسائل الإعلام المحسوبة على النظام، فبركت الواقع و قدمته للرأي العام
بالتناغم والتناسق مع مصالح الزمرة الحاكمة و رجال المصالح.
- لم
يجد الرأي العام الجزائر في وسائل الإعلام ذلك الفضاء العام لمناقشة الأفكار
والآراء والأطروحات من قبل الجميع، ما جعل البعض منها مجال لقوى محدودة جدا تسيطر
عليه وتحتكره لنفسها لتمرير أفكارها ووجهات نظرها، و ذلك منذ زمن طويل.
نحن نعلم جيداً أن
العلاقة بين وسائل الإعلام و الرأي العام، تستوجب
تحليل المكون السياسي، أي السلطات العمومية التي تنتج الإطار التشريعي و القانوني
الذي يحدد نمط أداء وسائل الإعلام، هذا الإطار يحدد بدوره مستوى حرية التعبير أو
مستوى الرقابة التي تعمل في إطارها وسائل الإعلام، كما نعلم أيضاً أن هذا الجو
التشريعي و الرقابي عندنا و بالذات في بداية الحراك الشعبي، لم يكن مواتياً لعمل
وسائل الإعلام بحرية سواء في تغطيته لهذا الحراك أو في تحليله إعلامياً، فالسلطة
لم ترضى أن يكون هذا الحدث مشروعاً سياسياً فبدأت تحاصره إعلامياً، خاصة و أن
موضوعه، الرئاسة و شخص الرئيس الممثل المباشر للنظام السياسي، فسقطت التعليمة تلوى
الأخرى على وسائل الإعلام، بعضها بالتهديد و الأخرى بالوعيد، و ثالثة بقطع التمويل
الإشهاري عنها كل ذلك حسب منطق الطاعة،
فشهدت المسيرات الأولي (22 فيفري) ضعف التغطية الإعلامية أو على الأقل لم تكن في
مستوى الحدث و الحديث، لكن تأكد فيما بعد أن الرأي العام الجزائري، لم يتصرف
كعادته – الظهور و الاختفاء دون أن يكون لذلك تأثير كبير - مما أوقع وسائل الإعلام
في حرج من عدم تغطية و الحديث عن هذه الأحداث و المسيرات في الوقت الذي تكفلت
وسائل إعلامية أجنبية بهذه المهمة ساندتها في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، التي
أثبتت بحق أنها إعلام بديل أو على الأقل مكمل لوسائل الإعلام التقليدية، ففي
الجولات الأولى انتصرت السلطة في قمع وسائل الإعلام، لكن سرعان ما انقلب الوضع و
أصحبت وسائل الإعلام في مستوى الأحداث المتتالية، و حتى تلك التي كانت محسوبة على
السلطة، لم تستطع البقاء خارج الحلبة.
ماذا نستنتج من الوضع
السابق؟، أولاً أن وسائل الإعلام لم تصنع الرأي العام في الجزائري كما تأكده
الأعراف العلمية بل حدث العكس، ظهور الرأي العام الجزائري هذه المرة هو الذي أجبر
وسائل الإعلام أن تتبعه، ثانياً أن وسائل الإعلام أثبتت من خلال عملها أنها غير
قادرة على صنع الرأي العام، و غير قادرة على التنبؤ بظهوره بل و غير قادرة على
توجيهه، فهي مثلاً إلى حد الآن لم تطرح مخرجاً بديلاً للأزمة حتى يمكن
أن يلتف حوله الرأي العام الجزائري، هذا الوضع جعل مكانة وسائل الإعلام عندنا
في وضعية حساسة كما يرى ذلك دومينيك
وولتن Dominique WOLTON تقع
بين المنطق التمثيلي للرأي العام، و منطق الفعل السياسي، فهي كانت و لا تزال
ضحية عملية إعادة ترتيب المشهد السياسي في
البلاد، حيث تسعى السلطة لاحتواء أكبر عدد ممكن من المنابر الإعلامية إلى جانبها
وإجهاض المنابر المتاحة أمام المعارضة الجزائرية.
عمومًا،
الإعلام الجزائري هو انعكاس للسياق السياسي الذي يعمل فيه، و انعكاس أيضاً لشح
الموارد المالية التي أضعفته في عملية تأطير الرأي العام شيئًا فشيئًا، وبالتالي
صار بقاؤها مرتهنًا من جهة أولى بعصا السلطة، ومن جهة ثانية بجيوب أرباب المال، ما
دفع بعض المهنيين، في القطاع الإعلامي، إلى التوجه نحو الوسط الإلكتروني لممارسة
الصحافة، باعتباره فضاءً أكثر مرونة وأقل تكلفةً.
إننا ننتظر من وسائل
الإعلام، أن تكون أكثر حضوراً في المشاهد المختلفة التي يعيشها المجتمع
الجزائر و ليس البحث فقط عن المبهر Sensationnel من
قضايا المخدرات و أزمة السكن و الرياضة و الحفر في الطريق العام، و الاستثمار في
آلام الناس.. و حتى و إن كانت هذه القضايا مطلب بعض الأفراد، إلا أنها لا تحدث
تغييرات عميقة في المفاهيم والممارسات الفردية والمجتمعية كما أنها لا تنجح في
العادة في تعميم المعرفة والتوعية والتنوير وتكوين الرأي ونشر المعلومات و مناقشة
القضايا المختلفة، التي تسمح بنضج أفراد الرأي العام الجزائري و
تنير له الطريق حتى لا تتسلط عليه مجموعة من المنحرفين من رجال الأعمال و السياسة
الفاسدين و المفسدين، أو المهرجين الذين ترشحوا للرئاسيات الأخيرة و
حتى لا يترشح إلى الرئاسيات إلا من كان يكن لهذا الرأي العام كل الاحترام و
التقدير.
أصبحت عملية تأطير Encadrement الرأي العام، عملية إعلامية أكثر منه مؤسساتية، فهي أي وسائل الإعلام التي تصنعه و إن لم تستطيع فهي التي توجهه و إن لم تستطيع فما عليها إلا مواكبته، فقد قال القدماء من المفكرين السياسيين أمثال ولتر ليبمان و جورج بيردو و موريس دو فرجيه، و حامد الربيع و غيرهم كثيرون، لا ينبغي ترك الرأي العام يتطور من تلقاء نفسه، فكلما كان الرأي العام عليما بمجريات الأمور كان أقدر على الفهم و إصدار الأحكام الصحيحة على الأشياء، و هكذا تغدو وسائل الإعلام أداة لخلق الحقيقة و للتحكم الاجتماعي و السياسي، و ليس كما يدعي، أداة لتسجيل الواقع، كما يحدث مع الكثير من وسائل إعلامنا.
