تكنولوجيا الاتصال الحديث و التواصل الأسري

 

انعكاسات التكنولوجيا الحديثة للاتصال على التواصل الأسري.

تم نشر المقال في مجلة التجديد الثقافية العدد 04 ماي 2023.

الأستاذ الدكتور تمار يوسف

الاتصال الأسري
الاتصال الأسري

ملخص المحاولة.

لعل أكثر الأنظمة الاجتماعية تأثيرا بالتطورات التكنولوجيا الحديثة للاتصال التي تشهدها المعمورة، هي الأسرة، هذا التنظيم الاجتماعي الذي عاش كل انعكاسات التحولات التي ظهرت في المجتمع، مما جعلها مع مر العصور، تتغير في مفهومها و تماسكها و بناءها و دورها، و وظيفتها على المستوى الاجتماعي.

نكاد لا نعرف الشيء الكثير عن طبيعة انعكاسات وسائل الاتصال و التواصل الحديثة و تطوراتها التكنولوجية المختلفة، على بنية الأسرة العربية، باعتبار أن هذه الأخير أكثر أنواع الأسرة تماسك بالعادات و التقاليد و الأعراف بمختلف مستوياتها و انتماءاتها، لكن ما نعرفه بالتأكيد هو أن الاتصال لا ينشأ في فراغ بل في سياق ثقافي، أي نظام من القواعد و القوانين التي تحدد  تغيرات صيرورته.

إن هذا المقال، ما هو إلا محاولة الحث للابتعاد عن الآراء " المتطرفة " التي يبديها الكثيرون حول انعكاسات (الإيجابية أو السلبية) استعمال التكنولوجيا الحديثة للاتصال على الأسرة العربية؟، لقد نجحت البشرية من خلال تنظيمها الأسري -و في كل مرة- في التكيف مع مستجدات الحياة، فلماذا لا يكون كذلك مع التكنولوجيا الحديثة للاتصال؟.

الكلمات المفتاحية: الأسرة، التكنولوجيا الحديثة للاتصال، التواصل الاجتماعي، التفاعل الاجتماعي.

Résumé.

Nous ne connaissons pas exactement l’impact des moyens de communication et ses divers développements technologiques, sur la structure communicationnels de la famille arabe, si conservatrice
de ces coutumes, de ces traditions et des différents niveaux d’affiliations, mais ce que nous savons avec certitude, c'est que la communication ne se fait pas dans le vide, C'est plutôt dans un contexte culturel, c'est-à-dire un système de règles et de lois qui définissent les changements dans le processus de
communication.
Cet article n'est qu'une tentative pour éviter les opinions extrêmes de l'utilisation ou pas les nouvelles technologies de la communication?, l'humanité a pu grâce à l’organisation familiale, s'adapter aux différents changements, alors pourquoi pas avec la technologie de la communication moderne?. 
Mots clés: famille, technologie de la communication, médias sociaux, interaction sociale.
Summary.
The social system specially the family, is probably the most affected by recent technological developments in the world, this social organization which has experienced all the repercussions
of the transformations that have appeared in society, changes in its concept, its coherence, and its construction,what to generate a change also on its role in the social interaction.
We do not know exactly the impact of the means of communication and modern communication and its various technological developments, on the structure of the Arab family, so conservative of these customs, traditions and different levels of affiliations, but what we know for sure is that communication does not take place in a vacuum. Rather, it is in a cultural context, that is, a system of rules and laws that define changes in the communication proces<s. This article is only a trial to move the extreme opinions away that many people manifest about effects (negative or positive) of new communication technology. Humanity has succeeded thanks to its family organization to adapt to the different changes, so why not with modern communication technology?
Keywords: family, communication technology, social media, social interaction.

             مقدمة.

قال أحدهم و هو يتباهي بشاسعة منزله، لدينا خمسة غرف لكل غرفة جهاز (الالتقاط هوائي) و تلفزة كما أن كل غرفة متصلة بشبكة الإنترنيت .. و قال الثاني و كم عدد أفراد عائلتك؟ مع أبي و أمي نحن خمسة، إذن لكل غرفته؟ نعم يقول الثاني، و هنا يسقط السؤال الذي يُعد المحور الأساسي لهذه المحاولة: و متى تلتقون؟.

        تحاول هذه الدراسة البحث في مظاهر الاتصال بين أفراد الأسرة الجزائرية و انعكاساته المختلفة على قوة الترابط بين أفرادها نتيجة تطور التكنولوجيا الحديثة للاتصال التي كان من المفروض أن تساهم في تسهيل حياة البشر و تجنبهم مشقة الحياة عند احتكاكهم بالطبيعة و مآرب أخرى كانت من الصعب التكيف معها.

قبل ذلك ينبغي علينا أن نذكر ببعض الحقائق التي تجعل مقاربتنا هذه أكثر موضوعية:

-       ليس كل وسائل الاتصال نقمة على أفراد الأسرة.

-       لكل أسرة طابعها الخاص في تربية الأفراد و التعامل معهم.

-       لا تُعد كل علامات التكيف مع التطورات التكنولوجيا، مظاهر الانعزالية و التطرف.

و رغم ذلك" تبقى الإشكالية المطروحة، ماذا أحدثت التكنولوجيا الحديثة للاتصال في طبيعة العلاقات الأسرية؟، و كيف يمكننا النظر إليها؟.

إن مسح للعديد من الدراسات و الملتقيات و الأيام الدراسية التي تناولت التكنولوجيا الحديثة للاتصال و آثرها على العلاقات الأسرية سواء عندنا أو حتى تلك التي أُنتجت في مجتمعات أخرى، يجعلنا غير قادرين على الجزم في طبيعة هذا التأثير، فالكثير منها أوجد آثار إيجابية في زيادة تقارب أفراد الأسرة عند استعمالهم للتقنيات الحديثة لوسائل الاتصال على سبيل المثال، و بعضها الآخر وجد لها (التكنولوجيات الحديثة) أبعاد سلبية انعكست على جلسات الحديث و الدردشة الأسرية، بل و ذهب البعض إلى وصف حالة الأسرة المعاصرة، أنها تتأرجح بين الحياة و الموت، فالإشكالية إذن لازالت قائمة في هذا الشأن.

إن الكثير من الدراسات* التي أجريت في هذا الشأن، قامت على أحكام قيمية غير موضوعية، فهي تنطلق من البعد السلبي الذي يمكن أن تظهره التكنولوجيا الحديثة للاتصال، ثم يتساءل أصحباها في بحوثهم العلمية،  عن نتائج و انعكاسات هذه التكنولوجيا على التفاعل الأسري في العائلات العربية؟، إن الموضوعية تقتضي منا أن نكون حياديين في تعاملنا مع هذا الدخيل "لجديد"، و أن ننظر نظرة علمية دقيقة لطبيعة انعكاساتها، لا أن نصدر أحكام مسبقة عليها، لذلك لا يشكل هذا المقال إلا محاولة بناء إشكالية موضوعية للموضوع المقترح. 

إننا نقصد بالتكنولوجيا الحديثة للاتصال، في هذا المقام، ما قصده الباحث محمد شطاح في إحدى مقالته حين وصفها " التكنولوجيا الحديثة هي مجموع التقنيات، أو الأدوات أو الرسائل والنظم المختلفة التي يتم توظيفها لمعالجة المضمون أو المحتوى الذي يراد توصيله من خلال عملية الاتصال الجماهيري، الشخصي، التنظيمي، الجمعي أو الوسطي، والتي يتم من خلالها جمع المعلومات والبيانات المسموعة والمكتوبة أو المصورة أو المرسومة أو المسموعة المرئية أو المطبوعة أو الرقمية، ونقلها من مكان لآخر وتبادلها، وقد تكون تلك التقنيات آلية أو يدوية أو الكترونية حسب مرحلة التطور التاريخي " 1، يتأكد لنا من خلال التعريف السابق، بل و في معظم التعريفات الخاصة بتكنولوجيا الاتصال الحديث، أن الأمر يتعلق ببعدين، بعد خاص بالوسائل الحديثة و تقنياتها، و بعد خاص بالاستعمال، و لو أن الأولى فرضت طبيعة الثانية، فالوسائل تشير إلى مجموعة الحوامل Supports من الآلات أو الأجهزة أو الوسائل التي تساعد على إنتاج المعلومات وتوزيعها واسترجاعها وعرضها، و نشير بها عادة إلى الحاسوب، و الهاتف النقال، و اللوحات الرقمية، و البرابول، و الفيديو الرقمي ..

أما الاستعمال فنقصد به مختلف التصرفات و السلوكات و الأفعال و العادات الناتجة عن احتكاك الفرد بتلك الآلات، كخدمات الواب، و البريد الإلكتروني، و المحادثة المباشرة، و نقل الملفات و خدمة الربط عن بعد و غير ذلك مما توفره تلك الوسائل من استعمالات، إذن إشكاليتنا تحمل متغيرين منفصلين، أضفنا لها متغير ثالث و هو الأسرة الجزائري خاصة و العربية عامة، و تصبح دراستنا دراسة طبيعة العلاقة بين المتغيرات الثلاث.

الأسرة العربية في خضم التكنولوجيا الحديثة للاتصال.

قبل بضعة سنوات خلت، كانت وسائل الاتصال الحديثة و تكنولوجياتها من الكماليات التي يفتخر الفرد باكتسابها، كما كانت تعد مؤشر من مؤشرات الانتماء إلى طبقة معينة في المجتمع، لكن الأمر تغير بتغير طبيعة المجتمع و تطوره وفق الاتجاه الإلكتروني الذي استحوذ على كل مجالاته، فأصبحت تلك الوسائل من الضروريات الأساسية تفرضها متطلبات الحياة المعاصرة، و أصبح استعمالها يكاد يغطي كل مناحي الحياة بمراكزها الحضرية الاجتماعية منها و الاقتصادية و التجارية و الثقافية .. مما أجبر الفرد المواطن على استعمال التكنولوجيا لتلبية متطلبات الحياة على المستوى الشخصي والمهني والعلائقي.

الوضع السابق، فرض نمط جديد من التغيرات على طبيعة الأسرة العربية، في دينها و تقاليديها و أعرافها، جعل الانتقال من الطابع التقليدي للاتصال، إلى الطابع التكنولوجي منه، أمر ليس بالسهولة التي قد تبدو للوهلة الأولى، حيث أن هذا الدخيل – التكنولوجيا الحديثة للاتصال – لم يستأذن قيم الأسرة العربية، لإقحام سلوكات و أنماط جديدة في تفاعل أفرادها، مما جعل الكثير من المختصين في علم الاجتماع و علم النفس و علوم الإعلام و الاتصال، يهتمون بطبيعة هذا الاقتحام و تجلياته، وذلك لأن هذه التكنولوجيا جاءت بقيم مادية وأخرى رمزية، غريبة عن أشكال التفاعل التي شكلت السياق الاجتماعي و الثقافي للأسرة العربية و لعهود طويلة من الزمن، الأمر الذي يعطي أهمية فهم موضوع الكيفية التي تتأثر بها الحياة الأسرية اليومية بالتكنولوجيا الحديثة للاتصال،  و التي ينبغي أخذه على محمل الجد من حيث الدراسة و التحليل العلميين.

إننا ننادي عبر هذا المنبر، إلى فهم طبيعة التفاعل بين التكنولوجيا الحديثة للاتصال، و نسق القيم الراسخة في طبيعة الأسرة العربية، و أن لا نتسرع في الحكم على ما نجهله من أثار تلك الوسائل، فإن وجدنا فيها خيرا، فلماذا لا نحاول أن نكيف ما نحن عليه من قيم و سلوك مع ما تتطلبه تلك التكنولوجيا؟، عسى أن تعود على أمتنا بالفائدة.

الأسرة كخلية اتصالية.

الأسرة هي مجموعة علاقات بين أفراد تجمعهم صفات معينة كالقرابة و الصلة بالدم، يتفاعلون فيما يبنهم طالما هم في مجال اجتماعي محدد وفق الأطر التي يفرضها الدين و العادات و القيم السائدة في ذلك المجتمع، و هي تُعد صيرورة اتصالية ما دام أن وجودها من وجود ذلك التفاعل بين أعضاءها، فالعلاقات الأسرية تقوم على التأثيرات المتبادلة التي تساعد في التماسك والتعاون، وهذا التبادل في التفاعل يظهر في الاتصال الديناميكي والمشاركة، "تمثل الأسرة شبكة من العلاقات العاطفية و التفاعلات المباشرة بين أفرادها مما يؤدي إلى التآلف و التوافق و الارتباط" 2، هذا الوضع الاجتماعي و النفسي يقوم بالأساس على فكرة التواصل و الاتصال بين مكونات الأسرة، فالقضية برمتها قضية اتصال، إذ أن الفرد خلال العملية الاتصالية داخل الأسرة و مهما كان دوره مرسلاً أو مستقبلاً، فإنه يجسد تفاعلاً مع بقية أفرادها و هذا ما يؤدي إلى خلق جو أسري مستقر من خلال العلاقة العاطفية التي تجمع أفراد الأسرة الواحدة، على خلاف الجماعات الصغيرة الأخرى3، فهو– الاتصال- قوي ما كان هذا التفاعل قوياً، و ضعيف إذا كان ذلك التفاعل ضعيفا أو منعدم، ففي إطار الأسرة لا نستطيع أن لا نتصل، فحتى الصمت أو الانعزال في حد ذاتهما عبارة عن تعبير عن حال معاش، رغم ما قد يضفيه من ضعف التفاعل و الترابط بين أفرادها، و على حد تعبير رضوان بوجمعة " تلعب التصرفات الفضائية دورا هاما في الاتصال ، حيث تتعلق بقواعد معينة، مرتبطة بالثقافة، و إذا ما تجاوزها الأفراد أو لم يحترموها تجرهم إلى صعوبات في الاتصال"4  .

إذن الأسرة خلية اتصالية لأنها تجمع كل عناصر العملية، من مرسل و مستقبل و تأثير، فهذه العناصر تتشكل و تتفكك و تعيد في التشكيل بصيرورة تحددها الظروف التي يعيشها الأفراد داخل الأسرة، فنجدها على شكل حوارات و مناقشات و تجمعات مناسبتية و غير مناسبتية كالالتقاء أمام مائدة الطعام في وقت معين أو الجلوس في سهرات رمضان .. كلها أوضاع اتصالية و تفاعلية يتبادل أفراد الأسرة فيها معلومات مختلفة، فقد أثبتت دراسة قام بها الباحث باب واعمر عبد الرحمان 5 على عينة من أفراد المجتمع الجزائري، أن مائدة الطعام تعد الرائدة في لم شمل الأسرة ، ويأتي في المرتبة الثانية التلفزيون في البيوت خاصة تلك التي تحوي على تلفزيونا واحد، و لدراسة التفاعلات الاتصالية في الأسرة العربية و الجزائرية منها، وجب التقيد بمجموعة من المتغيرات يلعب كل منها دور محدداً – لكنه أكيد – في تأثير التكنولوجيا الحديثة للاتصال، على أنماط و أشكال الاتصال داخلها، لكن هذا الاتصال يخضع إلى عدة متغيرات تحدد مستواه و قوته بل و وجوده أصلاً، منها:

شكل الأسرة: يعتقد الكثير، أن الاتصال الأسري يرتبط بطبيعة بنية الأسرة في حد ذاتها، من كونها أسرة نووية أو أسرة ممتدة، فقد يتزايد الاتصال في الأسرة النووية و يتقلص في الأسرة الممتدة، ففي الأولى تكون شبكة الاتصال بسيطة و محددة، بينما في الثانية تكون شبكة الاتصال ممتدة و متداخلة، قد يكون ذلك صحيحا لكنه لا يشكل قاعدة عامة يمكن تبنيها في تحاليلنا، فالعلاقة ليست بهذه البساطة.

صحيح أن شكل الأسرة قد يكون من بين أهم المتغيرات التي تلعب دورا في تحديد تأثيرات التكنولوجيا الحديثة للاتصال، على بنيت الأسرة و لاسيما العربية منها، حيث أن أنماط تكوينها و أشكالها، ينعكس بشكل مباشر على تحديد الأدوار الاجتماعية فيها، فمن المنطقي مثلا أن تكون العلاقات التفاعلية في الأسرة الممتدة أكثر تشابكا و تداخلا منه في الأسرة النووية، فكلما كثر عدد أفراد الأسرة كلما زاد الاتصال من مستوياته و أشكاله، و على هذا لن تكون لتكنولوجيا الحديثة للاتصال نفس الأثر في كلا النوعين من الأسر، بل أبعد من ذلك حين نعلم أن حتى هذا النوع من الأسر، لا يكون على نفس النمط من العلاقات بين تلك التي تعيش في الريف و تلك التي تعيش في المناطق الحضرية أو شبه حضرية، فالأمر يحتاج إلى دراسة كل المتغيرات التي تتحكم – إلى جانب شكل الأسرة – في التأثير المحتمل لتكنولوجيا الحديثة للاتصال على الأسرة العربية.

طبيعة تنظيم العلاقات داخل الأسرة: أي الأدوار التي ينبغي أن يلعبها كل فرد فيها، و على وجه الخصوص بين الزوج و الزوجة و عملية صنع القرار الأسري فيها، فهناك بعض الأسر يقودها الزوج (الأب) و في بعضها الآخر (الأم) و في بعضها الآخر قد يكون الأخ الكبير أو من لديه مهمة الانفاق Chef de ménage، و تنعكس هذه الطبيعة على تقسيم النفوذ و التشريفات التي تحكم طبيعة إدارة الأسرة من الداخل، فقد أثبتت دراسة نرمین حنفى6 عام 2003 حول "الإنترنت وأنماط التفاعل والاتصال في الأسرة المصرية"، أن ما نسبته 65.3 %  من مستخدمي الإنترنت أفادوا بوجود أنماط من الاتصال داخل الأسرة ترتبط باستخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة.

النمط من وجهة نظر علماء الاجتماع، هو جزء من السلوك التفاعلي يتكرر بشكل غالب كتناول أفراد الأسرة ثلاث أكلات في اليوم أو نوم الأطفال واستيقاظهم في وقت محدد، فالنمط هو مجموعة متناسقة من السلوك التفاعلي الذي يقوم به الفرد الذي يربط بين الأفراد ويجعلهم يتأثرون ببعضهم البعض أو يوجد بينهم اعتمادا متبادلا أو تأثيرا متبادلا.

إذن للأسرة عدة أنماط من التنظيم وفق متغيرات كثيرة، لذلك فإن ما سيرد في الفقرة التالية، لا يعد إلا فرضيات يمكن الانطلاق منها لفهم مدى التشابك الظاهر بين الاتصال كتفاعل اجتماعي، و النمط الذي تختاره كل أسرة في إدارة ذلك التفاعل، فقد نجد في الأسرة ما يمكن أن نسميه بنمط الاتصال الهادئ أو السلس أو المفتوح، و الذي يشير إلى ذلك الاتصال الذي يجد له قاعدة في الرغبة و الإرادة في تحقيق الحاجات المتبادلة بين أفراد الأسرة، بخاصة بين الأولياء و أبناءهم، فيكون الاتصال حر مباشر و يتسم بالانسجام و الاحترام والأمانة و الصدق و الاحساس بمشاعر الطرف الآخر، و في هذا الشكل، تتقبل الأسرة بنوع من السلاسة ما أنتجته تكنولوجيا الاتصال الحديث من وسائل، بل و تعمل على تكييفه ما نمط التنظيم فيها.

النمط الاتصالي الآخر الذي قد نجده في الأسرة، هو النمط الضيق أو المغلق و قد يشار إليه بالاتصال المحافظ عند البعض، و لو أن هذه التسمية لا تتطابق تماما لما نحن بصدد الحديث عنه في هذا الشأن، المهم أن المقصود به هو أن التفاعل الاتصالي داخل هذا النمط، تحدده قواعد صريحة أو مستترة على جميع الأعضاء احترامها، فقد نجدها بصرامة عند التطرق لبعض المواضيع و التعبير عنها، فلا يجوز مثلا الحديث عن بعض الموضوعات، أو الاقبال على بعض التصرفات أو حتى في طريقة اللباس، هذا ما يجعل أفراد أسر هذا النمط، في فردانية متزايدة بحجم تزايد شدة تلك القواعد، و هو ما قد يأثر على استعمال تكنولوجيا الاتصال ملجأ فعّالاً لتعويض المناخ الاتصالي بمناخ اتصالي اقتراضي آخر، فتخضع التكنولوجيا الحديثة للاتصال إلى ما تضع له باقي أشكال التفاعل داخل الأسرة.

يتأثر استعمال تكنولوجيا الاتصال الحديث من أجهزة و معدات و أشكال التواصل الإلكترونية أشد التأثير بالنمط السائد في الأسرة، فقد نجدها تكثر أو تزيد وفق النمط السائد في الأسرة، فقد وجدنا أسر جزائرية ملاحظة بالعين المجردة، أن قواعد التنظيم فيها شديدة إلى درجة أنها لا تكسب أي نوع من وسائل الاتصال الحديث ما عدا تلفزيون و من الطراز القديم، و أصبح الأبناء يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي بالخفية من أجل التحاور و طلب النصيحة بدل التوجه إلى الأولياء، و لا يخفى على أحد ما لهذه الوسائل من تأثيرات سلبية على مستخدميها غير الواعين.

إن هذا المتغير (نمط تنظيم الاتصال التفاعلي داخل الأسرة)، لا يمكن دراسته بمعزل عن متغيرات أخرى تحدد طبيعته و طبيعة علاقته باستعمال تكنولوجيا الاتصال، فمتغير سن الأبوين، و المستوى التعليمي لهما و لأبنائهما، و كذا مجالات تواجد العائلة و الاختلافات الحضرية .. كلها قد تشكل مداخيل دراسة و تفسير علاقة تكنولوجيا الاتصال الحديثة و تأثيرها على أفراد الأسرة.

الحيز الذي يتم فيه التفاعل: و هي المسافات الشخصية التي تفصل الأفراد أثناء اتصالاتهم اليومية و المتمثلة في المسافة الحميمية، و المسافة الشخصية، والمسافة الاجتماعية، والمسافة العمومية و تحدد هذه الأصناف بطبيعة السكن من عدد الغرف و المساحات الأخرى، التي تعلب بدورها دوراً مهماً في تحديد طبيعة الاتصال و مستواه،

إذ أثبتت دراسة تحسین منصور رشید7، أن 86.4 % من الشباب الأردني يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي من المنزل، و هي نسبة متقاربة في كل البلدان العربية، لذلك فقد يكون الاتصال أكثر حضوراً في المجال السكني الضيق منه في المسكن الواسع حيث يساعد الانعزال فيه على حساب الاتصال الشخصي المباشر، كما قد يأثر ضيق البيت على حميمية و خصوصية الفرد، وذلك من خلال غياب امكانية الاستقلالية و الانفراد بفضاء خاص في البيت نظرا لقلة عدد الغرف، مما قد يزيد من لجوء الفرد إلى المجالات الافتراضية بحثا عن تعويض ذلك النقص في فضاءه الخاص، "فالمجال الداخلي للمسكن قد يشكل ضغطا من الضغوط التي تتلقاها الأسرة وذلك عندما يفتقر إلى شروطه الوظيفية التي هي الراحة والسكينة التي تفسح المجال للتفاعل بين أفراد الأسرة، وفعاليتهم في أداء وظائفهم الفردية والجماعية وتنمية علاقاتهم و روابطهم الداخلية"8.

مستوى الأسرة (المادي على وجه الخصوص): و هو العائد المادي و المداخيل الأخرى التي تجعل أفراد الأسرة في ارتياحية عند اقتناء وسائل الاتصال الحديث و منه زيادة كثافته داخل و بين أفراد الأسرة، عكس الأسرة الميسورة الحالة التي قد يكون فيها استعمال وسائل الاتصال الحديث محدود، فقد أثبتت دراسة فطيمة همال أن عدم امتلاك بعض الأسر للوسائط الإعلامية الجديدة من ناحية الكم أو النوع،  يعود إلى المستوى المعيشي بالمقام الأول9، غير أن الأصح من الناحية العلمية، أن هذا المتغير لا ينبغي دراسته هو أيضاً، بمعزل عن متغيرات أخرى أتينا على أهمها فيما سبق.

قد يضاف إلى هذا المستوى، مستوى آخر لا يقل أهمية في تحديد دور تكنولوجيا الاتصال الحديث في تفاعل أفراد الأسرة، ألا و هو المستوى الثقافي، الذي من المؤكد أنه يلعب دور في تحديد ذلك التفاعل، لكن دوره هذا غير واضح، فقد وجدنا دراسات كثيرة أثبتت أن الأسر التي يكون فيها الوالدين على مستوى ثقافي عالي، تتأقلم العلاقات العائلية فيها بالتجانس مع تكنولوجيا الاتصال، و لا تأثر على طبيعة الأسرة و انسجامها مع عاداتها و تقاليدها، بينما ذهبت دراسات أخرى إلا أن هذا المتغير – المستوى الثقافي – لا يلعب أي دور في طبيعة و كثافة استعمال تكنولوجيا الاتصال الحديث.   

إن المتغيرات السابقة، لا تجد لها معنى عند دراستها بشكل منفرد، بل حضورها يتداخل تكامليا فيما بينها، حتى يمكننا فهم حقيقة الإشكالية التي تطرحها هذه المحاولة، ذلك أن الأسرة في حد ذاتها، مجموعة علاقات متداخلة فيما بينها تعمل في شكل متكامل لتحديد العلاقات و السلوكات و التصرفات داخلها، فالأصول العلمية تقتضي منا بناء علاقة تفاعلية بين من جهة التكنولوجيا الحديثة للاتصال، التي تعتبر المتغير الثابت، و باقي المتغيرات التي تتحكم في التفاعل الاتصال الأسري كمتغيرات تابعة، بحيث يؤثر المتغير التابع في المتغير الثابت و يفسره.

التكنولوجيا الحديثة للاتصال، المتغير الدخيل في الاتصال الأسري.

لا شك أن تكنولوجيا الحديثة للاتصال، أدخلت تغيرات قد لا ندرك بعضها علانية، فالبعض منا يعتقد أنها لم تغير شيء في تفاعله مع بقية أفراد أسرته، و البعض الآخر يعتقد أنها عززت الانعزالية و التطرف بين وحداتها، ففي بحث استطلاعي حول تأثير شبكة الإنترنيت على العلاقات الأسرية الجزائرية 10، أجاب 30.5 % ممن مسهم الاستطلاع أن الإنترنيت لم تساهم في تفكيك الأسرة، و بنفس النسبة أجاب 30.5 % على أنها ساهمت في تفكيك الأسرة، و هذا هو الحال بالنسبة للكثير من الدراسات التي اطلعنا عليها في هذا الشأن، و هذا ما يؤكد على أن التكنولوجيا الحديثة للاتصال، أحدث شيء لا ندرك طبيعة أبعاده على مستوى تفاعل أفراد الأسرة الواحدة، و أننا غير متأكدين أيضاً من طبيعتها و تأثيرها على تفاعل أفراد الأسرة الواحدة.

الأسرة الجزائرية واحدة من الأنظمة التي شهدت هذه التقلبات التكنولوجية، فقد أثبتت دراسات كثيرة، أن التكنولوجيا الحديثة للاتصال، قد غزت كل الأسر الجزائرية مع شواذ طفيف جداً، مما جعلها تعيش أوضاع مختلفة تبعاً لطبيعة استعمال تلك الوسائل و شدتها، "یزداد اقتناء الأسرة الجزائرية، بشكل مستمر ومع الوقت، لكل ما هو جدید من هذه الوسائط، حیث من النادر توفر جهاز تلفزيون واحد في الأسرة الواحدة، أو عدم امتلاك حاسوب، كما تسارع إدخال الإنترنت إلى المنازل بشكل مذهل" 11.

صحيح أن وسائل الإعلام و ما صاحبها من تطورات مماثلة في تكنولوجيات الأدوات الرقمية، من العناصر التي أثرت على طبيعة الأسرة و تفاعل أعضائها، حيث أصبح من الصعب على الأفراد الاستغناء عنها بعد ما وصلت إلى مركز مهم في حياتهم ما أحدث "خلل" في الطبيعة التقليدية لأنماط الاتصال بين أفراد الأسرة الواحدة، الشيء الذي جعلها تشهد تغيرات في بنية علاقاتها و في نمط الأدوار الاجتماعية لكل فرد فيها، حيث أصبحت الحاجة لوسائل الاتصال في بعض الأحيان أكثر إلحاحاً من الحاجة إلى التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة بالأشكال المعهودة (تجمعات، لقاءات، مناقشات، تبادل الآراء .. )، فالأطفال الذين يجلسون لساعات طويلة أمام جهاز من أجهزة الإعلام أو الاستعمال المكثف لوسيلة من وسائل الاتصال الحديث، يكون ذلك في الغالب على حساب الوقت الذي يفترض أن يقضيه مع أفراد عائلته و لا سيما الأب و الأم و الجد و الجدة إن وجدا، و بطريقة ما يفقد الفرد ذلك التواصل المباشر في امكانية الحصول على الثقافة الأسرية و المجتمعية التي يحدثها ذلك التواصل من جيل إلى آخر.

كما ساهمت وسائل التكنولوجيا الحديثة للاتصال أيضا في إقصاء أفراد الأسرة من عادات أصيلة وحميدة، كانت سائدة في الماضي ومستمدة من الثقافة المحلية للمجتمع مثل القيم والدين والعادات والتقاليد وكل المنتجات العقلانية الأخرى، حيث كانت هذه المبادئ، هي العامل المساعد لبقاء السلوك الأسري داخل الإطار الذي ينبغي أن يكون عليه بلا تعقيدات أو تجاوزات لتلك القيم والأحوال 12، و خير دليل على ذلك صلة الرحم التي كانت بالأمس تقام وفق طقوس و عادات تلزم أصحابها بتبادل الزيارات و تتم عبر الاتصال المباشر، أصبحت اليوم تقام على مواقع الواصل الاجتماعي و عبر الرسائل القصير SMS.

إن حديثنا ليس حول الاتصال الذي يُعد ظاهرة حياتية لازمت البشرية منذ ظهورها، لكن في بعده الاجتماعي الذي شهد تغيرات و تبدلات كلما ظهرت وسيلة جديدة، فهكذا كان الشأن عند ظهور الراديو و التلفزيون و التلغراف .. حيث كان الناس متشائمين منها و في ما يمكن أن تحدثه على طبيعة بنية و تفاعل أفراد الأسرة، فكان الكثير يرى فيها سبب اضمحلال الأسرة بمفهومها التقليدي في مجال الجماهير و المجتمع، و نفس الوضع نعيشه الآن مع ظهور تكنولوجيات الاتصال الحديث على شاكلة الهاتف النقال و الحاسب المحمول و الانترنيت، و التي يرى الكثيرون أن انعكاساتها سلبية على طبيعة الوضع الاتصالي داخل الأسرة الواحدة، فمنهم من أرجع لها سبب تفاقم ظاهرة العنف، و البعض الآخر يرى أنها هي من فكك أواصل الأسرة، و البعض الآخر ربطها بتزايد نسبة الطلاق في المجتمع، بل ابعد من ذلك فهناك من جعلها السبب الرئيسي في استفحال ظاهرة الخيانة الزوجية.

التكنولوجيا الحديثة للاتصال، شر لابد منه.

إن إقتحام التكنولوجيا الحديثة للاتصال إلى بيوتنا، أحدث جدلاً بين علما الاجتماع و التربية و علماء الاتصال، بين مؤيد لهذا الاقتحام و رافض له نظرا لما يمكن أن تحدثه هذه الوسائل من تأثيرات على أفراد الأسرة و الأطفال على وجه الخصوص، و كذا على النمط الاتصالي السائد فيما بينهم، غير أن الكثير من الباحثين ينادي بضرورة مواكبة الحضارة بالاستفادة من ميزات هذه الوسائل و الابتعاد عن أضرارها.

لاشك أن تكنولوجيا الحديثة للاتصال (الهاتف الذكي الهاتف الخلوي، اللوحات الذكية، الحاسب الشخصي، الأنترنيت) قد أحدثت تغيرات في طبيعة الاتصال بين أفراد الأسرة، كما لا نشك أنها قد تحدث الأثر التي جئنا عليه سابقاً، لكن قبولنا بها يجعلنا من المتشائمين ذوي النظر الضيقة في ما يمكن أن تحدثه تلك الوسائل من جهة أخرى على تفاعل أفراد الأسرة.

لقد أنتجت التكنولوجيا الحديثة للاتصال أنماط جديدة من العلاقات داخل الأسرة، كما أنها عززت أخرى كانت موجودة في طبيعتها، و قضت من جهة أخرى على تلك التي كانت في صميم الاتصال داخل الأسرة، و من بين مميزاتها، يمكننا ذكر البعض:

أ – لم يعد البعد المكاني يشكل عائق في استمرار التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، فقد أبقت على التواصل مستمر بين أفرادها، خاصة إذا كانت المسافة بين تواجدهم كبيرة (هجرة أحد أعضاء العائلة مثلاً) فعن طريق وسائل الاتصال الحديث على شاكلة الهاتف النقال، سكايب، فيسبوك، توتر .. يمكن للفرد البقاء في اتصال دائم مع أفراد عائلته و الحفاظ على تفاعلهم التقليدي، يقول صادق رابح في هذا الشأن " من الأبعاد الأكثر تجديدية في الانترنت، تمكين المتفاعلين، ضمن فضائها، من تجاوز الإكراهات الفيزيائية المرتبطة بسياقات الحضور وطقوس المكان، واستحداثها لسياقات افتراضية تطبع التبادل بطابعها " 13، لقد جاء استطلاع أجري من قبل مؤسسة "بيو إنترنت" في عرض آراء نحو "2252" أسرة، أن 53% ممن شملتهم الدراسة، صرحوا: أنَّ التقنيات الحديثة ساعدتهم في البقاء على اتصال مع أقاربهم، الذين تفصلهم عنهم مسافات بعيدة 14.

        و لا يفوتونا في هذا المقام، أن نذكر بالدور الذي لعبته التكنولوجيا الحديثة للاتصال، في الحجر الصحي بعد انتشار وباء كورونا، حيث أصبحت الملجأ الوحيد للكثير منا في استمرار عمله في الحجر، أو قضاء بعض من حاجاته، أو البقاء في اتصال بالأهل و الأقارب للسؤال عنهم و عن صحتهم، كما شكلت التكنولوجيا الحديثة للاتصال لدى الكثير من الأطفال على وجه الخصوص أثناء ذلك الحجر، نافذة يتنفسون عبرها و يصبرون على متاعب الحجر و سلبياته.

ب – التقليل من التنقل لقضاء العديد من الحاجات، فقد ألغت التكنولوجيات الحديثة للاتصال، عناء التنقل لأفراد العائلة لقضاء حاجات كانت تتطلب للكثير منا قطع مسافات كبيرة لقضائها، علاوة على امكانيتها الولوج إلى مراكز البحث و تقديم الدروس و المحاضرات و شتى المعلومات التي أصبح بالإمكان الحصول عليها دون مغادرة البيت، و تبين الدراسات بأن "فايسبوك"  مؤخرا أصبح يضم أكثر من 47000 كلية، مدارس، عمال، شبكات إقليمية وغيرها 15، فقد لجأت الكثير من الجامعات في الدول العربية على سبيل المثال، إلى التكنولوجيا الحديثة للاتصال، لاستمرار تقديم الدروس عن بعد، للطلبة بعد فرض الحجر الصحي في الكثير منها لتفادي انتشار وباء كورونا.

ج – مهام كثيرة يمكن أن يؤديها أفراد الأسرة عن طريق التكنولوجيا الحديثة للاتصال، فبعضها يُعد امتداد لأعمالهم المهنية، كإنجاز أعمال أحضروها من المكتب إلى البيت، أو يريدون إجراء حسابات منزلية، أو رسائل، أو مهام تسويق، أو أعمال مصرفية، كما أن الأطفال قد يريدون الكمبيوتر لأداء واجباتهم المدرسية في المنزل أو للتسلية، و بعضها الآخر يمكنه أو يكون وسيلة لقضاء حاجات كانت بالأمس تتطلب التنقل إلى المؤسسات و المرافق العامة لأدائها مثل مكتب البريد، البنك، بعض مصالح البلدية و الولاية ...

د – سرعة و ضخامة المعلومات التي تدور حولنا يومياً، إلى درجة أننا لا يمكن أن نلم بها و لا حتى بجزء صغير منها، الوضعية التي سماها إلفين توفلر Alvin Toffler "فائض في المعلومات" العجز الذي يعاني منها كثيرون اليوم بسبب سرعة تداول المعلومات، أولا لأنها ضخمة من حيث الحجم، ثم أنها متواجدة في أماكن يصعب في الكثير من الأحيان الوصول إليها، فكما يقال " كلما تطورت البشرية، و تعقدت أساليب الحياة، تراكمت المعلومات، و اتسع نطاق استخدامها"، "و صاحب ذلك حاجة متزايدة إلى تنظيم هذه المعلومات، و تخزينها بأساليب تتيح استرجاعها بأقصى سرعة، و في أي مكان" 16 فعبر التكنولوجيا الحديثة للاتصال، يمكننا الحصول عليها بالضغط على زر فقط، بعد الولوج إلى المواقع التي تتواجد بها، فالحاسوب على وجه الخصوص، يُعد علبة المعلومات.

تساهم التكنولوجيا الحديثة للاتصال في توثيق المعلومات والبيانات بشكل كلي أو جزئي أو انتقائي وفق ما يحدده الفرد منا، وبهذا فإنها يمكن أن تعد نوعا من التأريخ لنشاطات و ذكريات الأسرة و أفرادها، يمكن الرجوع إليها مما يجعل التواصل بين الأجيال أكثر صلابة، و توارث العادات و التقاليد أكثر رسوخا، بل و أصول العائلة محفوظة جيل بعض جيل.

التكنولوجيا الحديثة للاتصال، واقع لا مفر منه و لا يمكن تصور الرجوع عنه رغم ما قد يحمله من سلبيات على الأسرة و طبيعة التفاعل فيها، كما أنها فتحت الباب واسعاً لمناقشة وضعيتها بين المختصين و الخبراء و المربين .. فهكذا كان الحال عند ظهور كل وسيلة في مجتمعنا حيث تصبح موضوعاً للجدل و الخلاف في الرأي، بين مؤيد و معارض بين من يريد الحد من استعمالها و من يريد توسيعها على كل مجالات الحياة، بين من أرجع لها كل هموم الدنيا، و بين من جعلها معيار تقدم الأمم و الأشخاص، يعتبرونها معيارا لقياس درجة تحضر أي مجتمع.

أما حقيقة الأمر، أن الحد الفاصل بين إيجابية التكنولوجيا الحديثة للاتصال و سلبيتها على علاقات أفراد الأسرة، يتحدد وفقاً لطبيعة استعمال تلك الوسائل و فيما تستعمل؟، فقد تساعد على تقارب أفراد الأسرة و زيادة تفاعلهم الإيجابي بينهم، و قد تُبعد المتقاربين كما يُقال، فالأمر برمته يكمن في مكانة و طريقة استعمال تلك الوسائل، فإمكانيتها في تسهيل مشقات الحياة، كبيرة من خلال الوظائف التي يمكن القيام بها، فالهاتف النقال على سبيل المثال له من الفوائد ما يجعله وسيلة تزيد من تفاعل أفراد الأسرة تماسكاً و تلاحماً حيث أنه يمد عملية الاتصال و يجعلها تتواصل رغم الظروف التي قد تعيقه مثلما كان الحال فيما سبق، و الحاسوب بأنواعه و لواحقه، سهل عملية جمع المعلومات و تخزينها، ما يجعل امكانية التواصل بين أجيال في الأسرة الواحدة عبر تاريخها، أمر إيجابي و فعّال في تماسك وحدتها، علاوة على ذلك كله امكانيتها الكبيرة في التربية و التعليم، حيث أثبتت قدرتها على تربية و تعليم أفراد الأسرة و في بعض الحالات تطرح كبديل للمعلم و الأستاذ.

و رغم ذلك، فقد تكون تلك الوسائل نقمة على تماسك و تفاعل أفراد الأسرة الواحدة، و ذلك عن طريق تعزيز العزلة عندهم و بخاصة الأطفال منهم، فقد وجدت دراسة حول استعمال الحاسب الآلي و آثاره على حجم الاتصال الشخصي الأسري في المجتمع الجزائري، أن 61.5 % من الأفراد المستجوبين يرتبطون ارتباطا دائماً بالحاسب الآلي و أن 72 % يفضلون استخدام الحاسب لوحدهم أي منعزلين على باقي أفراد الأسرة 17، حيث الاستعمال المكثف لها و اعتبارها الملجأ النفسي و الاجتماعي لهم، يجعل الأسرة كنظام قيمي يتراجع شيء فشيئا ليترك وظائفها التقليدية لصالح تلك الوسائل التي و عبر مضامينها، تطرح بدائل ليست دائماً في صالح الاتصال الأسري الفعّال، و في الكثير من الأحيان لا يتماشى و المبادئ التي تطرحها الأسرة من تقاليد و أعراف و قيم و سلوكات توارثتها جيل عن جيل، و حديثنا موجه على الأخص، لشبكة الأنترنيت التي و لدى الكثير من الأطفال و المراهقين، أصبحت الأب و الأم و الإخوة بل و هي الأسرة البديلة التي تتحكم في العلاقات بين الفرد و أسرته، حيث وصل استجواب قامت به الباحثة بوهلال أحلام، على عينة من أفراد الأسر التبسية (مدينة من مدن الجزائر) 18 ، إلى أن 60 % من المبحوثين، يعتبرون أن الانترنيت ساهمت في توسيع الفجوة بين الآباء و الأبناء و 25 % من افراد العينة كانت إجاباتهم إلى حد ما.         

            لذلك وجب على الأسرة الجزائرية تقبل هذه التكنولوجيا من خلال التكيف والتعامل والتفاعل معها وظيفيا، بهدف تيسير الحياة الاجتماعية دون تقبلها كقيمة جديدة أو دخيلة تؤثر على منظومة القيم التي توجه أنماط السلوك، فهم واعون بالمظاهر السلبية لتكنولوجيا الاتصال الحديثة، لكنهم يحبذون الأطر التقليدية التي تتحكم في طبيعة بناء الأسرة و سريات الاتصال فيها، فقد أثبتت الدراسة المشار إليها سابق، أن معظم أفراد الأسرة المستجوبون في إطار التحقيق، يفضلون الجلسات العائلية على منتديات المناقشة على الأنترنيت و بنسبة فاقت 68 %، لأنها حسب رأيهم، أفضل و فائدتها أوسع من المنتديات، كما يعتبرها البعض الآخر، فرضة للالتقاء خاصة في زمن كثرت فيه الانشغالات و قلت الجلسات التي تجمع كل أفراد الأسرة الواحدة 19.

و إذا حاولنا تقديم ما ينبغي القيام به حيال هذه التكنولوجيات الحديثة للاتصال، نقول:

-       لا ينبغي أن نبتعد كلية عن هذه التكنولوجيات، فقد يصيبنا ذلك بالتراجع و الجهل و التخلف، إذ أن المعلومات في عصرنا هذا، ضخمة إلى درجة لا يمكننا إدراكها بدون مساعدة مختلف وسائل الاتصال الحديثة.

-       الإبقاء على ثقافة الحوار بين أفراد العائلة بطريقة أو بأخرى، سواء في المناسبات أو في مختلف أشكال السلوك الطبيعي لها، مثل الوجبات الغذائية (فطور الصباح، الغذاء، العشاء)، و لما لا تشجيع أخرى مثل أعياد ميلاد الأطفال ..

-       ترويض الأطفال للاستعمال الإيجابي لهذه الوسائل فيما يخدم قوة التماسك العضوي بين أفراد الأسرة،

-       تدريب الأطفال على استعمال تلك الوسائل، في إنجاز الوجبات المدرسية و الجامعية بطريقة عقلانية.

-       تحديد أوقات استعمال تلك الوسائل دون تداخل مع أوقات أخرى يمكنها أن تكون للعب مع الأصدقاء و النزهة ..

-       الاعتماد على الثقافة الدينية التي تأصل للعلاقات الحسنة بين أفراد الأسرة، و التأكيد على مرجعية التعاليم الدينية للأطفال.

المهم في كل ما سبق، هو النظر إلى إيجابيات التكنولوجيا الحديثة للاتصال و استعمالها في ذلك الاتجاه بما يخدم تمساك العلاقات بين افراد الأسرة و تقويتها، و على حد تعبير  الفيلسوف جون ديوي "المجتمع لا يتشكل وجوده عبر التواصل و عبر الاتصال فحسب بل و يمكننا القول و بكل ثقة و ثبات أن المجتمع  يستمر و جوده في التواصل و في الاتصال" 20، كما نادت الباحثتان تيليوى عابد و عاشور زينة في مداخلتهما حول الاتصال و جودة الحياة في الأسرة، 21 "على الأسرة التعامل مع أبنائها في تفعيل الاتصال الأسري بإقامة علاقة تكاملية مع التكنولوجيات الحديثة لا تصادمية، وتسليح أفرادها بالتغذية الروحية والأخلاقية التي تعد مفتاح التربية، و إشراك الأبناء في أمور الأسرة كبيرها وصغيرها، و على الآباء أن يصحبوا أبناءهم كعمل تربوي، في عملية غربلة المعلومات التي يحصلون عليها من خلال التكنولوجيات الحديثة للاتصال..." وتقول الباحثة النفسية داليا حنفي "إن الحد الفاصل بين إيجابية وسائل الاتصال الحديثة أو سلبيتها يتحدد وفقا لطبيعة الاستعمال وإذا ما كان في الحدود الطبيعية أم إدمانًا، فالإدمان لا يقتصر على تعاطي مواد لها تأثير معين على الجسم، وإنما هو حالة الاعتمادية وعدم الاستغناء عن شيء ما، والشعور بالحاجة إلى المزيد لحصول الإشباع، وترتب اضطرابات في السلوك"، لذلك فمن العبث حظر التكنولوجيا عن الشباب، وإنما تأهيلهم جيداً للتعامل الإيجابي مع هذه التكنولوجيا، وتوظيفها في خدمة إمكاناتهم وطموحاتهم .

الخاتمة.

لقد أردنا من خلال هذه المحاولة، إبراز مدى أهمية دراسة و تحليل المتغيرين، من جهة مسايرة التكنولوجيا الحديثة للاتصال، و من جهة أخرى الحفاظ على دور الاتصال الشخصي الأسري، و هي معادلة صعبة التحليل لكنها ليست مستحيلة، إذ أن الأسر العربية و الجزائرية منها، بحاجة إلى توافق البعدين، لأننا لا يمكن أن نتخلى على تقاليدنا و أعرافنا و عاداتنا المتوارثة جيل عن جيل بواسطة الاتصال و التفاعل بين أفرادها، بحجة التقدم و العصرنة، إنها تشكل الحضارة العربية التي جعلت هذه الأمة تواصل في التواجد منذ قرون، و أن تواجه كل أنواع التهديدات التي حاولت مسحها من الوجود، و في نفس الوقت لا يمكن لهذه الأمة أن تبقى بعيدة عن مختلف التطورات التكنولوجيا التي تشهدها حضارة ما بعد التصنيع، فالأمر يحتاج إلى نوع من التوافق بين مخرجات الأولى و مدخلات الثانية، ألم ينجح اليابانيون في ذلك؟.

الحديث حول التكنولوجيا هو مسلمة من مسلمات العصر، كما يقول عبدالله التميمي*: لا يستطيع أحد أن يعيش بدون موبايل وبدون استخدام الانترنت، وبالتالي شئنا أم أبينا نحن مجبرون على استخدام هذه التكنولوجيا"، و يواصل القول "وسائل التكنولوجيا اليوم من وجهة نظري لا تحمل الخير أو الشر، فنحن الذين نزرع فيها الخير أو نزرع فيها الشر، وبالتالي فإن التكنولوجيا ليست في طبيعتها شريرة، وعلى مدار العصور كنا نتصور بأن كل وسائل التكنولوجيا مدمرة، سواء الصحافة أو الإذاعة أو التلفزيون والسينما.

تأثير التكنولوجيات الحديثة للاتصال على أفراد الأسرة، ليست ظاهرة مستقلة بذاتها فليس بإمكاننا عزلها عن نفسية الفرد ولا عن المحيط الذي يتم فيه التأثير، خاصة المحيط الاجتماعي، فهي عادة ما تملء الفراغ الذي تتخلى عنه مؤسسات التنشئة الاجتماعية، خاصة الأسرة منه،. حيث أن وسائل الاتصال تقوي العلاقة بين أفراد الأسرة التي يسودها التفاهم والتناغم، في حين يمكنها أن تساهم في إظهار سوء التكيّف معها في العائلات غير المستقرة أو التي تعاني من المشاكل

مقصدنا من هذه المحاولة، أن نأخذ إشكاليتها بجدية و موضوعية، و لا ينبغي أن نهلل دون علم أو دراسات علمية مؤكدة، على الانعكاسات السلبية لتكنولوجيا الحديثة على علاقات الأسرة العربية، و إن وجدنا أنها تأثر سلبا، علينا أن نشخصها ثم أن نحاول إيجاد حلول لها فيما تقدمه لنا سياقاتنا الاجتماعية و السياسية العرفية و القيمية، ألسنا نحن العرب قادرين على التكييف مع كل ما هو جديد في وسائل الاتصال الحديثة؟ ألم نقم بذلك عبر التاريخ عندما كان يظهر كل اختراع؟  فلماذا -كما يقول أحد الأخوة الباحثين-، نصر على رؤية الجوانب المظلمة لتكنولوجيا الاتصال الحديث؟ ثم لماذا لابد أن تكون الوسيلة هي السبب؟ لتكن لدينا الشجاعة في القول أن من يريد الرذيلة و الضلال، فقد يجدها في نفسه أولاً.

الهوامش:

*  لقد وجدنا و نحن نبحث عما يمكن أن نغدي به هذا المقال، أكثر من 60 دراسة تناولت بالدراسة إشكالية تأثير التكنولوجيا الحديثة للاتصال على الأسرة العربية، انطلقت من كون هذا التكنولوجيا، أنتجت قيم سلبية و انعكاسات خطيرة على تفاعل أفراد الأسرة العربية، ثم يتساءل أصحابها في إشكاليتهم عن انعكاسات تكنولوجيا الاتصال الحديث عن ذلك التفاعل؟ إن هذا الخلل العلمي، لا يساعدنا كثيرا في تحديد الدور الحقيقي لتأثير تلك الوسائل على الأسرة العربية، و نحن من الناحية الأخلاقية، لا نريد تقديم أمثلة عنها، لكن ننادي بالطرح الموضوعي لهذه الإشكالية و بالجيدة و الموضوعية التي تلقان بها، لأننا نحتاج إلى تحديد موقعنا معها؟.

1  محمد شطاح،( البث التلفزيوني بواسطة الأقمار الصناعية والتكنولوجيات الجديدة)،المجلة الجزائرية للاتصال، معهد علوم،  الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر، العدد 15 ، جانفي، جوان، 1997 ص 256.

2 Yvonne castellan, Psychologie de la famille, Toulouse: Edition Privot, 1993, P107.

3 Yvonne castellan, La famille du groupe à la cellule, France: Edition Saint-Etienne, 1980, P 03.

4  رضوان بوجمعة، أشكال الاتصال التقليدية في منطقة القبائل- محاولة تحليل أنثروبولوجي -، أطروحة لنيل شهادة دكتوراه دولة في علوم الإعلام والاتصال جامعة الجزائر، كلية العلوم السياسية والإعلام، قسم علوم الإعلام والاتصال، 2007، ص 131.

5  عبد الرحمن باب وأعمر، الاتصال الشخصي في ظل تكنولوجيا المعلومات: دراسة أثر الحاسب الآلي على الاتصال الشخصي في المجتمع الجزائري، رسالة ماجستير في علوم الإعلام و الاتصال، جامعة الجزائر: كلية العلوم السياسية و الإعلام، 2010، ص 307.

6  نرمین حنفى، أثر تكنولوجيا الاتصال الحديثة على أنماط الاتصال الأسرى في مصر- دراسة مسحية مقارنة - رسالة ماجستير. قسم الإعلام وثقافة الطفل ، معھد الدراسات العليا للطفولة ، جامعة عبن شمس، 2003.

7    تحسین منصوررشید، دور شبكات التواصل الاجتماعي في تحقيق احتياجات الشباب الأردني، دارسة مقارنة في النوع الاجتماعي. ورقة مقدمة للمنتدى السنوي السادس للجمعية السعودية للإعلام والاتصال،" الاعلامل الجديد..التحديات النظرية والتطبيقية"،جامعة الملك سعود- الرياض، 22. 15  أبريل .2012 -

8  محمد بومخلوف و [ آخرون ]، واقع الأسرة الجزائرية و تحديات التربوية في الوسط الحضري " القطيعة المستحيلة ". مخبر الوقاية و الأرغوميات، جامعة الجزائر، سلسلة " أحذر من الخطر قبل فوات الأوان"، 2008، ص 04.

9  فاطمة همال، الألعاب الإلكترونية عبر الوسائط الإعلامية الجديدة و تأثيرها في الطفل الجزائري، جامعة الحاج لخضر: قسم العلوم الإنسانية، 2012، ص 308.

10  بوهلال أحلام، تأثير استخدام شبكة الإنترنيت على العلاقات الأسرية الجزائري. مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماستر، جامعة العربي التبسي، كلية العلوم الاجتماعية و الانسانية، 2016، ص 74.

11  نفس المرجع، ص 308.

12  عوفي مصطفى، بن بعطوش أحمد عبد الحكيم، (تكنولوجيا الاتصال الحديثة و نمط الحياة الاجتماعية للأسرة الحضرية الجزائرية: أية علاقة؟) مجلة العلوم الإنسانية و الاجتماعية، العدد 26، السنة 2016، ص 07.

13  صادق رباح، (الانترنت فضاء مستحدث لتَشَكُّل الذات) المجلة المصرية لبحوث الرأي العام، العدد 02، 2007، ص 01.

14  عباس سبتي، التكنولوجيا وضعف العَلاقات الاجتماعية في الأسرة أسباب... وحلول... رابط الموضوع https://www.alukah.net/social/0/38731/#ixzz6TUylG5OK

15 Angelo Antoci and al, See you on Facebook: the effect of social networking on human interaction,2010, p 02.

16  حسن عماد مكاوي، تكنولوجيا الاتصال الحديث في عصر المعلومات. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1997، 27.

17  عبد الرحمن باب وأعمر، مرجع سبق ذكره، ص 156 و  256.

18  بوهلال أحلام، مرجع سبق ذكره، ص 69.

19  نفس المرجع، ص 308.

20 Park, Robert. E. Burgess. Ernest W, Introduction, to the sciences of the sociology. Chicago University of Chicago Press. 1970 p.103.

21  تيليوى عابد  و عاشور زينة، أفراد الأسرة الجزائرية في عصر العولمة: بين الاتصال والعزلة. الجزائر: جامعة قاصدي مرباح بورقلة، الملتقى الوطني الثاني حول: الاتصال و جودة الحياة في الأسرة، أيام 09/10 أفريل 2013.

*  مداخلة أعدها الباحث عبدالله التميمي في إطار ندوة مركز "الخليج" للدراسات الشباب والتكنولوجيا: أوجه الاستفادة وسوء الاستخدام - See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/e24ed046-d9ea-4af1-a16e-95568161a84f#sthash.iyn1rGXX.dpuf

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال