البحث والترجمة في علوم الإعلام والاتصال

 

تأملات في البحث والترجمة في علوم الإعلام والاتصال.

علوم الإعلام و الاتصال
الأستاذ الدكتور نصر الدين لعياضي

مداخلة في الملتقى الوطني: بحوث الإعلام والاتصال في الجزائر، أعمال نصر الدين لعياضي أنموذجا. من تنظيم قسم الإعلام بجامعة وهران 1 ومخبر سوسيولوجيا الاتصال الثقافي بالأغواط يوم 3 مايو2023

في البداية اسمحوا لي أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان لقسم علوم الإعلام والاتصال بكلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، بجامعة وهران 1، ومخبر سوسيولوجيا الاتصال الثقافي، بجامعة الأغواط الذين أتاحوا لنا فرصة اللقاء في هذا المحفل العلمي، والنقاش حول المنجز البحثي في علوم الإعلام والاتصال.

واستسمح الجيل الصاعد من أستاذة الإعلام والباحثين إن كانت هذه التأملات غير مطمئنة.   

كان الغرض من إنشاء المدرسة العليا للصحافة في 1964 هو تلبية طلب مهني: تكوين صحافيين لسد حاجات المؤسسات الإعلامية الناشئة، فطغت المواد التقنيو-مهنية على برامجها التدريسية. وفي الموسم الجامعي 1975-1976 تم دمج مدرسة الصحافة بمعهد العلوم السياسية فهمشت المواد التقنو مهنية. فغاب الهاجس الأكاديمي وراء تكوين الصحافي المناضل، الصحافي المؤدلج. فظلّ جيل كامل من الصحافيين يعاني من تبعات هذا الدمج وربما لازال. فحتى برامج الماجستير الذي اعتمدت في إطار هذا الدمج انساقت وراء الهاجس السياسي والأيديولوجي فركزت على المادة الصحفية وتحليل مضمونها: إنه عصر جاك كيزر[1] والدراسات المرفولوجية للصحفية. الانسياق الذي نأى عن التفكير في أشكال الكتابة الصحفية، وسوسيولوجية الصحافيين وجمهور وسائل الإعلام وأشكال التلقي، ونظريات الإعلام والاتصال ومناهج البحث العلمي. ومع ميلاد معهد علوم الإعلام والاتصال في سبتمبر 1983، وتأسيس التخصصات الثلاث: الاتصال، والصحافة المكتوبة، والسمعي-البصري، بدأت تكوين الصحافيين يتحرر تدريجيا من الدوغمائية السياسو-إيديولوجية. وبدأ التوجه نحو مساءلة مهنة الصحافة بأدوات علمية، وتحليل الظواهر الإعلامية والاتصالية بعُدّة نظرية ومنهجية.      

تحت وطأة الأزمة المالية الناجمة عن التراجع الكبير في أسعار النفط، في منتصف ثمانيات القرن الماضي، اضطرت الجزائر إلى انتهاج سياسة التقشف في مختلف المجالات. فكفت الجامعات الجزائرية عن شراء الكتب الأجنبية، وألغت اشتراكها في أبرز المجالات المتخصصة. ولا زال بعضها على ذاك العهد رغم وفرة المجلات العلمية الإلكترونية المجانية التي لا تشترط سوى الاشتراك باسم المؤسسة الجامعية. فعانى معهد علوم الإعلام الاتصال، الوحيد المتخصص في تكوين الصحافيين آنذاك على مستوى الوطن، من شح المراجع، شأنه في ذلك شأن الجامعة الجزائرية، لكن معاناته كانت أشد لأن برامجه الدراسية تضمنت ملتقيات غير قارة ذات موضوعات معاصرة، تتطلب المستجد من المراجع  لتغطية موضوعاتها، ومواكبة البحث الأكاديمي في مجال علوم الإعلام والاتصال، مثل: التلفزيون الموضوعاتي، والإذاعات الحرة، والتلفزيون الكابلي، والبث المباشر عبر الأقمار الصناعية والذي أحدث آنذاك "ذعرا أخلاقيا" في مجتمعنا، ومفهوم الأمبريالية الثقافية، والثقافة الوطنية، والثقافة الجماهيرية، والصناعات الثقافية، والسياسة العمومية في مجال الاتصال والإعلام، والخدمة العمومية في قطاعي الإعلام والثقافة. ولم يكن لأساتذة المعهد آنذاك أي حيلة سوى الاستعانة بما تيسر من النسخ التي يصورونها من المجالات والكتب، التي تقع تحت يدهم أو تختطف من الغير. ثم يقومون بترجمتها لسد النقص الفادح في المراجع الحديثة باللغة العربية حتى يستفيد منها الطلبة الذين الحقوا بالجامعة دون امتلاك ناصية اللغة الأجنبية. وهكذا بدأت مسيرتنا مع الترجمة التي أصبحت ملازمة للتدريس والبحث. لقد توجت هذه المسيرة بترجمة بعض النصوص التي نشرت في ثلاثة كتب، وهي: التلفزيون كما نتحدث عنه، ووسائل الإعلام والمجتمع: آراء ورؤى. والتلفزيون، المشاهدة، والبرمجة: آراء ورؤى. وقد استفدت من الترجمة في إعداد كتاب: مساءلة الإعلام الذي تضمن بعض الأطروحات والانشغالات المعرفية التي نشر جزءا منها في مجال " المسار المغربي".

أعتقد أن الترجمة اليوم في علوم الإعلام والاتصال، التّي اتسعت موضوعاتها بفعل التطور التكنولوجي، تتطلب من المترجم أكثر مما اشترطه الجاحظ في زمن حنين بني إسحاق، وثابت بن قرة المترجمين الأساسيين في بيت الحكمة؛ أي امتلاك مستوى فكري لا يقل عن مستوى مؤلف النص الأصلي، والسيطرة على موضوع النص المترجم بالقدر ذاته الذي يسيطر عليه كاتبه، والضلوع في اللغة التي يترجم عنها وإليها[2]. وامتلاك الصبر والجلد لولوج عالم التكنولوجية الرقميّة والنضال لتسمية التحولات والممارسات التي نتجت عنها. فالمترجم ليس " مهرب" Le passeur النصوص من لغة إلى أخرى، كما يعتقد البعض، إنه " مبتكر" يبحث عن حفريات" المفاهيم وانتقال دلالاتها عبر الزمن، وعبورها من تخصص إلى أخر، حتّى يجد لها المقابل العربي أو ما يقوم مقامه.  فالمعروف عن علوم الإعلام والاتصال أنها تقع في نقطة تقاطع العديد من المعارف والتخصصات: العلوم السياسية، وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا، والفلسفة، وعلم النفس، واللسانيات، مما يعني ثراء سجلها الاصطلاحي والمفاهيمي. فللمفاهيم تاريخ، والقبض على محتوى كل مفهوم يتطلب معرفة تاريخه.  وإن كانت اللغة الأجنبية تؤرخ للكلمات وتتعقب تطورها التاريخي، فإن القواميس العربية لا تهتم، مع الأسف، بالجانب التاريخي للمفردات. " إن الحياة لم تدخلها. إنها بلا زمان" على قول محمد عابد الجابري.[3] لذا يشعر المترجم ببعض الإحباط في كده من أجل ترجمة بعض المصطلحات والمفاهيم وتمثيل الأفكار الواردة في النص الأصلي والتعبير عنها مثلما قصدها صاحبها، بلغة بسيطة ودقيقة لتكون في متناول القارئ؟

تصلني بين الحين والأخر بعض الرسائل عبر بريدي الخاص أو عبر مدونتي الإلكترونية يلمني فيها أصحابها على الكتابة بأسلوب معقد، والجنوح نحو تعسير الأفكار ممّا يستعصي عليهم فهمها. فيثنيهم على متابعة ما أنشره.

لا أشير إلى هذه الرسائل من باب التشهير أو التقليل من شأن أصحابها، بدليل أني لم أرد بمنطق أحد النقاد الذي خاطب أحد قرائه قائلا: ما فهمته من نصوصي هو لك. وما لم تفهمه هو لغيرك. إنني أشير إليها من باب التأكيد على ما يتكبده المترجم من احباط في الإجابة العملية عن السؤال التالي: كيف نرتقى بالفكر بلغة عربية بسيطة ودقيقة وواضحة؟ وما السبيل إلى ذلك، وكلّ ترجمة تطرح معضلة معرفية ولسانية وثقافية وسياسية. فكيف نميز على سبيل المثال بين Public وAudience. وكيف نترجم الجمهور بصيغة الجمع، Publics بمفهوم أخر، غير الجماهير ذات التضمين السياسي التي تعني الحشد Mass، و narrowcasting والتي تشير إلى توجه البرامج التلفزيونية ومواقع الإذاعات والتلفزيونات في شبكة الانترنت للوصول إلى الجمهور القابع في الجيوب الاجتماعية والجغرافية المهمشة، وما هو المقابل العربي الدقيق  spamming و streaming ، وغيرها من المصطلحات التي اضطرت بعض اللغات الأجنبية إلى الاحتفاظ بها كما هي بلغتها الأصلية: الانجليزية ، وكل محاولة البعض للقيام بالشيء ذاته باللغة العربية يقابله الاستهجان باسم نقاء اللغة العربية من الشوائب الدخيلة عليها. ومع الأسف لا ندري هل أن مجامع اللغة العربية ومجالسها اهتمت بهذا الأمر وأصدرت " فتواها" أم مازالت تنتظر. فعلى الرغم من تأخر اللغة الفرنسية في " السوق اللغوي" العالمي إلا أن ميشال سير، الفيلسوف الفرنسي، وعضو الأكاديمية الفرنسية، يشير إلى إن إعادة طباعة القواميس الفرنسية تتم كل أربع سنوات فتضيف لها ما بين أربعة إلى خمسة آلاف كلمة، لكن الفرق بين طبعة وأخرى في العصر الحالي، أصبح يناهز الثلاثين ألف كلمة!
لازال المترجم الجزائري يعاني من تبعات غياب سياسة وطنية في مجال الكتاب والمترجم منه على وجه الخصوص. وهذا ما حاولت استدراكه بعض البلدان العربية، مثل مصر، والكويت، والإمارات، البحرين، وقطر. وما يثبط هذا المترجم أكثر هو موقف الناشرين من الكتاب المترجم، ولعل المثال التالي يكشف باقتضاب تصرفهم.

عرضت أخر كتاب ترجمته بعنوان مناهج البحث في السياق الرقمي"، والذي صدر في (2020) عن جامعة موريال بكندا، على العديد من ديار النشر ومركز دراسات في البلدان العربية. ولم أتلق الرد سوى من بعضها فقط. لقد اتفق الناشرون الذين ردوا على طلبي أنه يتوجب عليّ الحصول لهم على حقوق الترجمة والنشر من الناشر الأجنبي، بمعنى أخر، يجب عليّ أن أشترى لهم هذه الحقوق. مقابل ماذا؟ بعضهم أخبرني بأنه يتكرم بوضع اسمي على غلاف الكتاب المترجم! وبعضهم اشترط أن أرسل له ثلاثة فصول مترجمة كاملة، وغير منقوصة، ومنحه حق إلغاء أو تبديل الفقرات والمقاطع الواردة في النص الأصلي والتي لا يرضى عنها! هذا إن وافق على طبعه. ونسخة من الكتاب المقترح للترجمة حتى يتأكد من مستوى مؤلفيه. هذا مع العلم أنني أخبرته بأن 22 أستاذا وباحثا من جامعات أجنبية مرموقة ساهموا في انجازه، وأشرف عليه شيخ أستاذة الإعلام الكندين، سارج برولكس، الذي تتلمذ على يد المفكرين "ادغار موران" و" آلان توران" في سبعينات القرن الماضي. وأسس قسم الاتصال بجامعة موريال- كندا في 1975. ومنذ ذاك التاريخ وهو يشرف على العديد من مخابر البحث في مجال الاتصال والميديا. نعم، أنه يصر على تقييم مستوى هؤلاء الباحثين، ومعظم ديار النشر لا تملك، في حدود علمي، لجنة قراءة ولا ترى حتى ضرورة وجودها.

على الرغم مما سبق قوله إلا أن شفقتي على أصحاب ديار النشر في المنطقة العربية لم تنضب. إنهم ضحايا السوق الثقافي الذي ساهموا في صناعته! لقد أصبح جلّ الناشرين العرب عبارة عن وسطاء بين الكاتب وصاحب المطبعة وليس القراء. هذا إن لم نصفهم بالسماسرة. إنهم لا يغامرون بتاتا. يقبضون مسبقا من الكاتب كلفة المطبعة مع هامش من الربح، لتصبح مسألة التوزيع والبيع ثانوية، ولا تشكل رهانا ماليا ولا ثقافيا بالنسبة إليهم. إن هذا المنطق لا يساير بتاتا مكانة الكِتَاب، خاصة المترجم، في الثقافة العربية. كيف ذلك؟ هذا ما يوضحه المثال التالي:

إن كتاب: كيف نفهم وسائل الاتصال؟ الذي منح لماكلوهان شهرته العالمية، هو الكتاب الوحيد الذي ترجم إلى اللّغة العربيّة من كل إنتاج ماكلوهان[4]، بعد إحدى عشر سنة من صدور نسخته الأولى باللّغة الانجليزيّة! لم يلفت هذا الكتاب نظر الدارسين العرب، فأصبح بسرعة نسيًا منسيًّا! ولم يؤد إلى بعث النقاش عن "الماكلوهانية" في الفضاءين العربيّن: الأكاديمي والصحفي. وهذا خلافا لكتابه "مجرّة غنتبرغ" الذي ترجم إلى اللّغة الفرنسيّة بعد سنة فقط من صدوره بلغته الأصليّة. لقد دشنت هذه الترجمة النقاش عن " الماكلوهانية" في فرنسا، ودفعت رواد ما بعد الحداثة الفرنسيين إلى الاستلهام من أفكار ماكلوهان في كتاباتهم.[5] فهل يعود هذا الأمر إلى قلة القراءة في المجتمعات العربية وحتّى في وسط نخبتها، وأن الكثير ممن يقرأ يميل إلى قراءة النصوص السردية أكثر من النصوص الفكرية والجدالية نتيجة اعتياده على نمط من التلقي الذي يحيّد كل مشاركة ديناميكية في إنتاج المعنى تماشيا مع استشراء "ثقافة السمع" التي رسختها " طبائع الاستبداد"، ممّا أدى إلى إنتاج نظرة تقييمية للنصوص بما فيها الأدبيّة التي " تقوم في جوهرها على الأخلاق"[6]؟  

على الرغم من تزايد البحوث في مجال الإعلام التي تهتم بموضوع الهوية الوطنية، والهوية الرقمية، والوعي الديني، والثقافة الوطنية، والعولمة الثقافية، والاغتراب الثقافي إلا أن سؤال هوية البحوث الإعلامية الجزائرية والعربية لا زال يطرح باستمرار في اللقاءات العلمية. كنت اعتقاد أن السؤال يندرج في إطار الهاجس/ القلق الكوني للبحث عن "الأنا الأصيلة" أو صعوبة بناء الهوية في "الحياة السائلة" في العالم المعاصر، لكنني أدركت أنه يعبر عن اقتناع بأن استعمال النظريات والمناهج الغربية يؤدي بالضرورة إلى تبعية بحوث الإعلام والعلوم الاجتماعية بصفة عامة إلى الغرب اعتبارا بأن هذه النظريات والمناهج ظهرت في بيئة غير بيئتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وبالتالي إنها عاجزة عن فهم مشاكلنا الاتصالية والإعلامية وقاصرة عن دراسة خصوصيتنا الحضارية.

لقد رد السوسيولوجي المغربي حسن رشيق عن هذا التساؤل/الهاجس بالقول:

" لانطرح السؤال حول النظرية انطلاقا من مفاهيم الاستيراد أو التأصيل أو التوطين، فهي ليست مسألة
نسخ علم غربي، أو النظر بعيون الغرباء، أو استبدالها بعيون الأهالي، أو خلق نظرية محلية
عربية، إسلامية، مصرية، تونسية. فإذا كانت هناك حدود في العلوم الاجتماعية، فهي
ليست لغوية ولا عرقية ولا قومية، ولكنها نظرية وإبيستيمولوجية. فلدينا الاختيار بين الجاهز
للارتداء والـمُصمّم على المقاس، وأنا أفضل القيام بأبحاث مصمّمة على المقاس دون أحكام
مسبقة، أو بشكل أدق بوضع أحكامي المسبقة على المحك".[7]

لو حاولنا تصنيف ما تم إنجازه في ميدان بحوث الإعلام في الجزائر نجد فيه " الجاهز للارتداء" و" المصمم على المقاس". إن الدراسة المسحية والرائدة التي قام بها الباحث فرانسوا شفلدوني في أطروحته الموسومة الاتصال غير المتكافئ: النفاذ إلى وسائل الإعلام في الأرياف الجزائرية[8]، لتحليل علاقة الفلاحيين الجزائريين بوسائل الإعلام- الصحف، والإذاعة، والتلفزيون والسينما في منطقة المتيجة، خلال الفترة الممتدة من خمسينات إلى نهاية سبعينات القرن الماضي، تنتمي إلى البحوث الجاهزة. قدمت الكثير من الحقائق عن الممارسات الإعلامية في البيئة الريفية الجزائرية التي نسفت العديد من نظريات الإعلام: القذيفة السحرية، الحتمية التكنولوجية، لولب الصمت، الاستخدامات والإشباعات. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أطروحة واد بوزار: الاستقرار والترحال: نظرات على المجتمع الجزائري[9] التي قدمت بعض ملامح الثقافة الجزائرية عبر دراسة مسحية للاختلاف في تمثّل المسافة/ المكان والزمن/ الوقت في المناطق الجزائرية الثلاث: الشمال- الهضاب- الجنوب.

أما الدراسات المصممة على المقاس، فيمكن أن نذكر تلك التي رصد فيها فرانز فانون تطور علاقة الجزائري بالإذاعة والتي نشرها في كتابه: سوسيولوجيا الثورة، الثورة الجزائرية في عامها الخامس[10]. والدراسة التي انجزتها جويل ستولز[11] Joëlle Stolz   بعنوان " الجزائريون يشاهدون دالاس – المسلسل الأمريكي المشهور والذي يعد أفضل درس لتلقي الجزائري للدراما، والأمريكية تحديدا.

فهل قمنا بتقييم هذه البحوث في إطار البحث عن هوية البحوث الإعلامية الجزائرية؟

المتعارف عليه أن موضوعات البحث تستلهم عادة من الملاحظة الميدانية. فكم هي البحوث في علوم الإعلام والاتصال التي استلهمت موضوعاتها من هذه الملاحظة؟

للإجابة عن هذا السؤال أميل إلى تنزّيل ما ذكره المؤرخ عبد الله العروي عن الفن التجريدي في المغرب على البحث في علوم الإعلام والاتصال في الجزائر، وربما في المنطقة العربية. لقد أكد على أن للفن التجريدي تاريخ طويل. إنه التاريخ الذهني والروحي للغرب المسيحي، بينما سقط الرسم التجريدي بالمغرب، فيما كان يؤسف له بخصوص الرواية. " غياب تشخيص ( تمثيل ) مباشر للواقع. فما نشاهده وما نتأمله هو مجموعة من التشخيصات ( التمثيلات ) الذهنية للواقع. وهذا أمر مألوف في ثقافتنا." [12]

إنه لمن المحزن حقا أن نجد " بحوثا" عن أخلاقيات الإعلام والصحافة ولا تشير إلى أي صحيفة أو قناة تلفزيونية، أو مؤسسة إعلامية، ولا تذكر أي صحافي، ولا تقدم أي مثال توضيحي. إنها تجريد في تجريد. والأدهى أنها تنأى عن التوجه التاريخاني الذي يلح عليه عبد الله العروي، بمعنى أنها لا ترى أي صلة من الصلات بين الفساد الذي استشرى في الحياة العامة والممارسة الصحفية، بل تقفز على الإشهار الذي تحول إلى مفسدة، مثلما ذكر ذلك العربي ونوغي، المدير السابق للمؤسسة الوطنية للإشهار والنشر، العمل الصحفي في الجزائر.  

يرى الفيلسوف الفرنسي بشلار بأن العلوم لا تتطور بتطور أدوات القياس على الرغم من أهميتها، بل بتطور الإشكاليات التي تطرحها.  لذا اعتقد أن جوهر الخلل في نشاطنا البحثي في علوم الإعلام والاتصال لا يمكن في الأداة: أداة جمع البيانات والقياس، بل في استنساخ إشكاليات البحث وامتثالها. فالإشكالية هي محرك البحث ومطورته، ومعالجتها تتطلب اجتهادا فكريا يسمو بها ويثنيها عن تقديم حزمة من البيانات الخرساء، البعض يقول إنها عمياء؛ أي الذهاب بها إلى أبعد من الوصف أو المسح. فالبحث العلمي ليس حصيلة جملة من البيانات، بل إنه موقف ابستمولوجي وفكري، يؤطره براديغم وتقوده نظرية. وبفضله يشع الفكر في بناء موضوعات البحث التي ليست معطى جاهزا وسهلا، يعرض نفسه على الباحث فيقبله بكل سذاجة.

لقد انخرطنا منذ ثلاثة سنوات في مشروع طموح يتمثل في مراجعة نظريات الإعلام والاتصال على ضوء ثلاثة متغيرات أساسية: تطور المعارف في مجال علوم الإعلام والاتصال، وتطور الممارسة الإعلامية والاتصالية المرتبطة بالتحولات التكنولوجية، والسياق الثقافي والاجتماعي الجزائري والعربي.

ما شجعنا على خوض هذه التجربة يكمن في قلة تنوع المقاربات النظرية لدراسة الميديا في المنطقة العربيّة، إذ لاحظنا الاعتماد المتزايد، إلى حد الإشباع، على نظرية الاستخدامات والإشباعات الوضعية التي تختزل العلاقة المعقدة بين النص والمتلقي وفق منطق " ما يطلبه المستمعون" في بيئة ما انفكت تزداد تعقدا وفي ظل الاستراتيجيات الإعلامية والاتصالية المتطورة التي تستخدمها المؤسسات الإعلامية في سوق شديد التنافس. فالسؤال الذي تستند إليه هذه النظرية: ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام، لم يعد، في نظر أصحاب البراديغم البنائي والتفهمي، يحظى بالأولوية، وربما بالأهمية، لأن الجمهور يتجه اليوم تدريجيا ليكون شريكا في منتجات الميديا. وأن ما يقوم به أصبح مرئيا في مختلف المنصات الرقمية ويمكن ملاحظته[13]. ويعتقدون أن السؤال المحوري الذي يتطلب إجابة وافية عنه يتمثل في: ما هي المعاني التي يمنحها مستخدمو مواقع الشبكات الاجتماعية لِما يقومون به في مختلف الشاشات في أثناء القيام به. وأن الاعتصام الضمني بنظريات التأثير سواء من منظور القذيفة السحريّة أو الحتميّة التكنولوجيّة في دراسة الميديا الاجتماعيّة، التي يجزم الجميع بأنها تفاعلية لم يعد يقدم قيمة معرفية مضافة. وهذا يعني فقر المقاربات النظرية في جل بحوث الإعلام الذي تحول بعضها إلى كليشيهات. ولعل أبرز مثال على ذلك هو اختزال أطروحات مكلوهان في مقولة " القرية العالمية، و" الوسيلة هي الرسالة" دون أن تفضي إلى تطوير " نظرية الميديا " التي ولدت من رحم هذه الأطروحات[14] أو على الأقل تواكب تجدّد التفكير فيها وبها. وهذا ينطبق بشكل خاص على نظرية الفضاء العمومي التي توقفت في الكثير من البحوث على ما قدمه هابرماس في 1962. مع التركيز على البعد السياسي للفضاء العمومي في مجتمعات افرغت السياسة من محتواها، وتم إغفال الجانب اللساني الذي لا زال يشنج العلاقات الاجتماعية في المنطقة العربية. ففي هذا الإطار يؤكد هابرماس بأننا نستعمل الكلام لغايات اتصالية أكثر من الغايات الادراكية الخالصة. فاللغة ليست مرآة العالم، لكنها تمكن من النفاذ إلى العالم. وبهذا إنها تصقل رؤيتنا إلى العالم بطريقة خاصة. وكأن هناك شيء ما مسجل في حديثنا مثل رؤيتنا للعالم.[15] لقد اهتدى هابرماس إلى نظرية الفعل التواصلي من تأكيده على مكانة اللغة في الفضاء العمومي. وسايره في ذلك الاتجاه ما بعد البنيوي الذي يرى أنه "لا يمكن معرفة الواقع إلا عبر اللغة والخطاب".[16]

 لدفع البحوث " المصممة على المقاس" إلى الأمام، اقترحنا تغيير المقاربة للظواهر الإعلامية والاتصالية في ورقة بحثية بعنوان: الرهانات الابستمولوجية والفلسفية للمنهج الكيفي: نحو أفاق جديدة لبحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية في 2009[17]. ودعونا فيها إلى رفد هذه البحوث بالمقاربات الكيفية لعلها تحررها من الإحاطة بسطح هذه الظواهر دون الغوص في أعماقها. وتدفعها إلى الكف عن الحديث باسم الغائب: الجمهور، وتشجعها على إعادة النظر فيه والتعامل معه ليس باعتباره مصدراً للمعلومات أو البيانات وحسب، بل لكونه مُؤَولها أيضاً. لقد لقي هذا الاقتراح معارضة شديدة بحجة أن الضرورة تقتضي الاهتمام بما هو كلي  Macro القابل للتعميم، بدل التركيز على الجزئي Micro الذي يقدم الاستثناءات، وربما حالات خاصة لا يمكن القياس عليها. فمجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى البحوث الكمية لتسليط الضوء على التحولات التي يعيشها قطاع الإعلام والاتصال في بلدنا. وأن البحوث النوعية تتيح الفرصة أكثر لهيمنة الأيديولوجيا على البحث العلمي في مجال الإعلام والسقوط في الذاتيات. وللرد على المعترضين يمكن الاستعانة بالكاتب السوري ماهر مسعود الذي أكد على أنه" إذا كنا سنصل إلى الموضوعية objectivity عبر دراسة الذاتية subjectivity عند كانط، فقد برهن فوكو على حجم الذاتية والذاتوية التي توجد في كل دراسة تدّعي الموضوعية."[18]

 لا يسعنا اليوم سوى التعبير عن ترحيبنا بالنقاش الحيوي الجاري حول المقاربات النوعية في كليات وأقسام الإعلام في الجزائر، متمنيا أن يجد امتداده التطبيقي في البحوث الميدانية.

حقيقة، تعاني المقاربات الكمية في بحوث الإعلام في الجزائر من صعوبات جمّة لعل أبرزها هو غياب مؤسسات مستقلة مختصة في الاحصائيات والبيانات واستطلاع الرأي. وعزوف المؤسسات الرسمية والخاصية عن نشر إحصائياتها، والتي تزود الباحثين بالبيانات التي تمكنهم من متابعة تطور المجتمع، والممارسات الإعلامية والثقافية.  

يرى الفيلسوف عبد السلام بنعبد العالي[19] أن جيل دولوز قرأ تطور تاريخ الفكر أو " اللافكر". وقسمه إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى كان التركيز فيها على الهاجس المعرفي: الابستمولوجي. فشحذ العُدّة المنهجية للتصدي للخطأ وتجاوزه. والمرحلة الثانية واكبت للقرن 19، وظهر فيها اللاوعي الذي يؤكد على أن الكثير من الأشياء لا تخضع للمراقبة. فأصبح الهاجس الأساسي يكمن في الصراع ضد الأوهام ونقد الأيديولوجيا. أما المرحلة الثالثة فتتسم بتقويض البلاهة وفق ما ذهب إليه الفيلسوف نتشه. وحتى لا أُفْهم خطأ أؤكد بأن المقصود بالبلاهة هنا هو الاهتمام بإنتاج اللامعنى. وقد استغل عبد السلام بعبد العالي هذا التقسيم لتبرير توجهه إلى تحليل مجتمع التمشهد، على حد قول غي دوبرGUY DEBORD.

فأين تقع بحوث الإعلام والاتصال في الجزائر والمنطقة العربية في المراحل الثلاث المذكورة؟  هل يمكن القول إننا قفزنا إلى المرحلة الثانية دون مراجعة مكتسباتنا المعرفية من المرحلة الأولى؟

نلاحظ أن الكثير من البحوث الإعلامية في المنطقة العربية لا يتوقف لتفسير ما هو موجود في الظاهرة الإعلامية والاتصالية وفهمها، بل يقفز رأسا إلى الحديث عما يجب أن تكون عليه. وبهذا يحيد عن ساحة العلم ليسقط في شراك السياسية والأيديولوجيا. وعليه نشعر أن علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية تعيش أزمة فكر. وأنها عاجزة عن تقديم حقائق جديدة. وأصبحت " تجتر ما هو معلوم". وحتى لا يكون حكمنا قاسيا وقاطعا، يمكن الإشارة إلى ما أكده أريك ميغري عبر قوله بأن البحوث عن وسائل الإعلام تعاني من حسّاسيّة مفرطة للضغوطات التي تمارس عليها من خارج الدوائر العلمية لأنها تجري في ميدان ذي ثقل معياري مرتفع جدا. وتقع بين فكي النقد والاحتفاء، وبين اللعنة والطوباوية. لقد كشفت هذه البحوث، ومازالت تكشف في بعض الأحيان، عن بعض الصفات النموذجية لعدم نضجها العلمي[20]

ربما سنشعر ببعض العزاء في الرأي القائل بأن الأزمة عامة وتشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية ككلّ. ولا تتعلق بالبحث في مجال الميديا فقط. لكن هذا لا يمعنا من التمعن في رأي فقيد علم الاجتماع الجزائري جمال غريد الذي بناه على قراءات ومعاينة. لقد أكد بأن الباحثين في العديد من البحوث في العلوم الاجتماعية لا يقومون سوى باللف والدوران، لأن ما يهمهم حصريا هو السعي لإثبات صحة المقدمات prémisse التي ينطلقون منها.[21]

نعتقد أنه من الصعوبة بمكان النهوض ببحوث الإعلام والاتصال في الجزائر دون إجراء تقييم شامل لمنجزها يشخص الصعوبات، ويفتح أفق المساءلة وفق الأبعاد الثلاثة التالية:

 البعد الانطولوجي ،Anthological ، هل استطاعت البحوث الجزائرية في مجال علوم الإعلام والاتصال تشخيص ما تدرسه من أجل استجلاء التحولات الثقافيّة والإعلاميّة في تعيشها المجتمعات العربيّة؟

والبعد الاكسولوجيي Axiological : أي عما تخبرنا به بحوث الإعلام والاتصال، وتراه يستحق فعلا أن يعرف عن الإعلام في المنطقة العربيّة ؟

والبعد الابستمولوجي Epistemological : أي القيمة المعرفية التي تقدمها هذه البحوث والطرائق التي اعتمدت عليها لبلوغها.

المراجع:


[1] - أنظر:

- Kayser Jacques, « L’étude du contenu d’un journal : analyse et mise en valeur », Études de Presse, vol. XI, n° 20-21, I959, pp. 6-18

- Kayser Jacques, le quotidien français, A.colin 1963

[2] - Myriam Salama-CarrLa traduction à l'époque abbasside. L'école de Hunayn Ibn Ishâq et son importance pour la traduction, Paris Didier EruditionCollection Traductologie, n°. 6, 1990 pp.91-101

[3] -  محمد عابد الجابري: حقوق الإنسان: ثقافة أم أيديولوجية؟ صحيفة الاتحاد 15-2-2005

[4]  مارشال ماكلوهان "كيف نفهم وسائل الاتصال"  ترجمة خليل صابات، محمد محمود الجوهري، دار النهضة العربية، القاهرة- نيويورك،1975

[5] - نصر الدين لعياضي: التفكير مع ماكلوهان ضد الماكلوهانية، مجلة لباب العدد 12، توفمبر- تشرين الثاني، 2021 ص 11-51

[6] - محمد الحموي :الروائي التشيكي ميلان كونديرا: أن تكون كاتباً لا يعني التبشير بالحقيقة بل اكتشافها!  صحيفة القدس العربي، الصادرة في 11-12-2006

[7] - حسن رشيق: أولويات البحث السيسيولوجي في العالم العربي: تحليل، مواقف، ومقترحات: مركز ابن خلدون، للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر، 2022، ص 11

[8] - François Chevaldonné : la communication inégale ; l’accés aux médias dans les campagnes algériennes ; CNRS ; 1981

[9] - Wadi Bouzar : mouvance et la pause: regards sur la société algérienne, SNED, 1983

[10] - Frantz Fanon, Sociologie d’une révolution. (L’an V de la Révolution algérienne) François Maspero  1972 ; p51-82

[11] -Joëlle Stolz: Les algériens regardent Dallas in Jean-Luc Maurer, Faouez Mellah, Dominique Perrot et al. Les nouvelles chaînes-Techniques modernes de la télécommunication et le Tiers Monde : pièges et promesses. Graduate Institute Publications ,1983 p. 221-246

[12] -  كمال التومي: ظاهرة التجريد في الرسم المغربي، إضاءات لموقف عبد الله العروي، مجلة علامات، المغرب، عدد 9-1988،  http://saidbengrad.free.fr/al/n9/8.htm

[13] -  نصر الدين لعياضي: التفكير في عُدَّة التفكير: مراجعة نقدية لنَظَرِيَّة "الاستخدامات والاشباعات" في البيئة الإعلاميّة والاتصاليّة الرقميّة

[14]- أنظر على سبيل المثال: نصر الدين لعياضي: التفكير مع مكلوهان ضد المكلوهانية، مجلة لباب، العدد 12  - نوفمبر/تشرین 2021

[15] - Jürgen Haberma:  Public Space and Political Public Sphere—The  Biographical Roots of Two Motifs in my Thought, The Journal of philosophy of disability , VOL 1 , 2021  p 105–115 doi: 10.5840/jpd2021110

[16] - Glen Creeber   Digital theory: theorizing New Media, in Glen Creeber and Royston Martin Digital cultures and understanding New media- Open University Press McGraw-Hill Education 2009, p16

[17] - قدمت في المؤتمر الدولي: الإعلام الجديد: تكنولوجيا جديدة  لعالم جديد،  بكلية  الأداب، جامعة البحرين  يومي  9-7  أبريل  2009

[18] -  ماهر مسعود: الفلسفة وعصر العلم، صحيفة القدس العربي الصادرة يوم 1 ديسمبر 2022

[19] - حوار مع عبد السلام بنعبد العالي: نتف ميثولوجيات – ترجمة: سعيد بوخليط،

https://urlz.fr/kKtU 

[20] -  أريك ميغري، سوسيولوجيا الميديا والاتصال، ترجمة نصر الدين لعياضي، هيئة البحرين للثقافة والتراث، البحرين، 2018، ص 65-66

[21] - Djamel Guerid :Il faut connaître la société, La Nation, Mercredi 2 Janvier 2013

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال